شوك السنط.. شوك الورد!
عاطف معتمد
آخر تحديث:
الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 - 7:40 م
بتوقيت القاهرة
أخذت الصورة المرفقة فى الشتاء الماضى، كنت عائدا ومعى علاء (يحمل خرائط رسالته للدكتوراه) بعد أن أتممنا تجوالا فى منطقة وعرة لا تدخلها سيارة الدفع الرباعى، ووجدنا الأصدقاء من العبابدة فى قيلولة أسفل شجرة، وتلك الشجرة هى كل الحياة فى الوادى.
فى تلك الرحلات الشتوية الأخيرة تعرفنا على ثلاثة من أبناء قبيلة العبابدة بالصحراء الشرقية، يحملون أسماء: عيد، وبدر، وبغدادى.
ينتمى الأصدقاء الثلاثة إلى «ناس فرج الكريم» ويمكن القول إن «ناس فرج الكريم» شعبة صغيرة من عشيرة أكبر تحمل اسم «فرحانآب» والكلمة الأخيرة هى تجميع كلمتين: «فرحان» و«آب».
ولأن «آب» تعنى عند العبابدة «أولاد أو أبناء» فالعشيرة هنا تعنى «أبناء فرحان».
تتراوح أعمار الرجال الثلاثة بين الخامسة والعشرين والخامسة والأربعين. ولديهم مستويات متباينة من المعرفة بالصحراء.
صحيح أننا لا نستفيد استفادة كاملة من الصحراء إلا لو كانوا فى صحبتنا أثناء البحث والسفر فى الوديان وبين التلال والجبال، إلا أن المعارف الأصيلة بالصحراء تغيرت كثيرا عند أهل الصحراء.
والتغير الذى أقصده هو بداية انقطاع الصلة بين العبادى والصحراء مقارنة بما كان عليه الآباء والأجداد.

لاحظت أن «عيد» الذى يبلغ من العمر 45 عاما من بين الذين تأثروا سلبا بتغير اقتصاد الصحراء وأصبح لا يعرف كثيرا عن أسرار البيئة، لأنه بات يعمل فى نشاط سياحى وخدمى وتعدينى قرب الساحل ولم يعد يدخل بطن الصحراء كثيرا.
أمضينا مع عيد نحو أسبوع، وكان من المفترض أن نحصل منه على ثروة كاملة من معلومات البيئة فى جبل ضوى والوديان الممتدة فيما بين سفاجا والقصير على البحر الأحمر، لكن للأسف لم يقدم لنا الكثير.
فى اليوم الأخير وفى آخر استراحة قبل النزول إلى البحر جلسنا تحت ظل شجرة سنط لنتناول طعاما ونشرب بعضا من قهوة الجَبَنَة الشهيرة.
نزل عيد من السيارة قبلنا ليفرش الأرض بالحصيرة الخضراء الممزقة، فوجد صعوبة بالغة بسبب كمية الشوك الهائلة التى سقطت أسفل الشجرة، استغرق الأمر منه نحو ربع ساعة ليكسر تلك الأشواك ويدهسها بحذر ويزيحها عن الموضع الذى سيفرش فيه حصيرته التى نضع عليها علب التونة وعيش الصاج الذى خبزناه فى الصباح وبعض تمور شهية.
بدأت أساعد عيد فحذرنى قائلا «انتبه.. الشوكة الواحدة من هذه أقوى من المسمار وتدخل فى لحم الجلد بسرعة البرق وتسبب آلاما وجروحا».
استعاد عيد من الذاكرة أن هذه الأشواك الكبيرة دخلت فى فخذ أبيه قبل ثلاثة عقود وسببت لها جرحا تفاقم إلى تلوث وحمى ولم يتداوى منه إلا بعد شهور طويلة، لأنه لم يكن هناك فى خيامهم المعزولة فى الصحراء أدوية ولا مراهم ولا مسكنات.
يقول عيد إن شوك السنط هذا مدهش جدا، فهو إن دخل فى جسمك يسبب مشاكل وجروح من ناحية، ومن ناحية أخرى هو أفضل «أبرة خياطة» كان يستخدمها الناس لصناعة الخيام أو خياطة الملابس.
بعد أن انتهت الرحلة عدت من الصحراء فى الشتاء الماضى، وبقيت هنا فى مكتبى المغلق فى القاهرة أترجم وأبحث فى موضوعات متباينة حتى حصلت على كتاب يتناول علاقة الأشجار بتطور الحضارة المصرية.
يقول مؤلف الكتاب ــ الذى سأخصص له مقالا للعرض التفصيلى ــ إن الشوك المنتشر فى أشجار عدة يحمل عند القبائل العربية اسم «بسلة» وأحيانا ينطقونه «سلى».
ويذهب المؤلف إلى أن العرب هم الذين أطلقوا على الصروح من حضارة مصر القديمة اسم «مسلة» لأن الشكل الذى تأخذه يشبه الإبرة أو الشوكة.
كتبت هذه الملحوظة لحين الرجوع إليها، وذهبت لأستكمل ورقة بحثية عن تطور الجغرافيا فى مصر فى العهد الملكى.
ختمت الورقة البحثية بمراجعة مجلة طلابية من عام 1947 صدرت فى جامعة فؤاد الأول (القاهرة لاحقا) وكان عنوانها «الأطلس.. مجلة يصدرها طلاب قسم الجغرافيا».
فى تلك المجلة أجرى الطلاب حوارات مع الأساتذة (من أمثال محمد عوض محمد) كما أجروا حوارات مع الطلاب والتلاميذ فى الفرقة الثالثة والرابعة.
يقول أحد طلاب الفرقة الرابعة وهو يستعد للتخرج «أعرف أن طريق الغد شاق.. ملىء بالشوك، لكن أوله مفروش بشوك السنط.. وآخره مفروش بشوك الورد».
هل كان هذا الطالب حكيما أو فيلسوفا نابغة فى تلك السن المبكرة؟ أم على الأرجح أنه قرأ تلك العبارة فى كتاب أو مقالة؟
بغض النظر عن مصدر الحكمة البليغة «شوك السنط.. وشوك الورد» إلا أنها تبين إدراك الفارق فى حجم الأشواك وآلامها وجروحها فى شجر السنط (أول طريق الكفاح) مقارنة بأشوك الورود الطرية الصغيرة (ختام طريق الكفاح).
لم يكن هذا الطالب فى عام 1947 ــ أو المؤلف الذى قرأ عنده هذه الفكرة البليغة ــ فى حاجة إلى السفر إلى عمق الصحراء للتعرف على أشجار السنط وأشواكها عن العبابدة فى الصحراء المقطوعة.
الحقيقة أن أشجار السنط كانت تترامى أيضا غير بعيد عن ضفاف النيل فى الصعيد على مشارف الصحراء.
فى وادى النيل ــ وقبل التغول العمرانى والتدهور البيئى ــ كان من الممكن أن تتعرف على الصحراء ــ حيواناتها ونباتاتها ــ فى مسافة قريبة دون التعمق فى قلب الجبال.
كان هامش وادى النيل يجمع النيل وفيضانه وسهله الفيضى من ناحية وبيئة هامش الصحراء من ناحية أخرى.
وقد أغرت هذه البيئة الانتقالية بعض قبائل العبابدة والبشارية (من صحراء الشرق) وبعض قبائل أولاد على (من صحراء الغرب) لأن يهجروا الصحراء القحة البخيلة ويعيشون على مشارف الوادى الغنى الثرى، فيضعون نصف حياتهم فى الصحراء وشحها ونصفها الآخر فى تربة النيل وخيراتها.
نحتاج إلى عديد من المقالات التى تكشف العلاقة بين الإنسان والحيوان والنبات والصحراء والتغيرات التى طرأت وباعدت بيننا وبينها، حتى أنه يندر أن نقابل طالبا اليوم لديه من البلاغة ما تساعده لأن يعرب لك أنه مستعد أن يبدأ حياته بعد التخرج وسيتحمل «شوك السنط» أملا فى أن تكون خاتمة الرحلة «شوك الورد».
لعلنا نكتب عن ذلك فى المستقبل.