بدائل غير محتملة فى مستقبل وشيك

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 18 ديسمبر 2014 - 7:55 ص بتوقيت القاهرة

معظم تجاربنا مع المستقبل تجارب أليمة كان الأمل قبل عام 2011 أن يكون المستقبل كريما معنا. يأتى بثورة ومعها التغيير. أتى بالثورة ولم يأت بالتغيير. انقلب على نفسه وعلى التاريخ وعلينا. كنا فى انتظار كرامة وحرية وعدالة ولا نزال فى الانتظار. أتى محمولا على أجنحة الأمل والتمنى، ولكن يبدو أننا قصرنا فى حمايته ودعمه. تركناه للذئاب والجوارح تنهش لحمه وتكسر عظامه. تركته لنا هيكلا محطما يلقى بظلاله الكئيبة على تطلعات وآمال جيل لن يهدأ قبل أن يصنع أسسا لمستقبل أفضل.

كنا فى انتظار أن تحل السعادة محل تعاسة أقامت طويلا حتى عششت. كنا فى انتظار مستقبل يستطيع الصمود فى وجه متاعب ومشاق جسام وفى إقليم يمر بمرحلة تحولات جذرية فى تراكيبه الديمغرافية والسياسية والاجتماعية، وفى وجه عقبات منعت مصر من أن تحقق تقدما كان من حقها وحرمت منه على امتداد عقود. لم تحل السعادة التى كانت أملنا فى المستقبل الذى ولى قبل أن نضع أيدينا عليه. وعلى كل حال لم نكن وحدنا. لسنا سعداء، ولكن الأمريكيين كذلك غير سعداء بسبب تخبط أدوات الحكم لديهم وتشقق الثقة فى كثير مما تصوروا أنها مسلمات، وبسبب انكشاف حال اللامساواة الاجتماعية والعنصرية الصارخة وعنف أجهزة الأمن. والروس غير سعداء بسبب الضغوط الاقتصادية التى فرضها الحصار الغربى على بلادهم وبسبب الإجراءات القمعية والبوليسية التى يفرضها نظام الحكم. ومعظم شعوب أوروبا غير سعيدة بسبب بطء مسيرة الانتعاش الاقتصادى والخوف المتزايد من صعود قوة ألمانيا ونفوذها فى القارة، وهى غير سعيدة أيضا لأن حظوظ الطبقة الوسطى الأوروبية سيئة كحظوظ الطبقة الوسطى الأمريكية، التى لم تستفد شيئا من إجراءات الخروج من الأزمة الاقتصادية العالمية. أما شعوب الشرق الأوسط، فهى أيضا وبالتأكيد غير سعيدة بل لعلها الأشد تعاسة بين كافة شعوب الكوكب، والأسباب معروفة وبعضها سوف أعرض له بعد قليل.

تبقى شعوب آسيا، ليس كل آسيا على كل حال، بل شرق آسيا وبعض جنوبها، هناك تظهر بشائر السعادة واضحة، فالأمور تسير من حسن إلى أحسن، باستثناء بعض الظنون فى نوايا الصين «التوسعية». يتوقعون انكشاف حقيقة هذه النوايا خلال العام الذى يبدأ بعد أيام.

كتب روجر كوين فى مقال بصحيفة نيويورك تايمز عن توقعاته للعام الجديد من خلال ما شاهده فى الأسابيع الأخيرة. يقول إنه وجد مدينة نيويورك هذه المرة أقذر من أى مرة سابقة، واطلع على الآثار التى خلفتها أزمة الرأسمالية الأمريكية وبخاصة الآثار الاجتماعية للفجوة فى الدخول. كتب عن الانحدار المتواصل للطبقة الوسطى الأمريكية، الأمر الذى يهدد مستقبل أمريكا، بل والغرب بأسره. كوين، مثل غيره من معظم من كتبوا عن الشرق الأوسط، غير متفائل بمستقبل الإقليم. صرت أعتقد أنه حتى المتفائلين من خبراء الشرق الأوسط لا يخفون قلقهم من مستقبل يطل علينا بعد أسبوعين أو أقل.

•••

تعددت انتكاسات الربيع العربى، وتعددت معها أسباب شعور الشعوب العربية بخيبة الأمل من «مستقبل» انتظروه طويلا يأتى حاملا لهم كرامة افتقدوها وحرية لم يمارسوها وعدالة غابت طويلا وسعادة يحلمون بها. حل المستقبل ومعه الربيع العربى، وانسحب كلاهما قبل أن يتحقق الوعد. تركا وراءهما إقليما ترتع فيه انتكاسات عديدة أهمها الانتكاسات التالية:

أولا، هيمنة أوسع من جانب الحكومات حيثما وجدت حكومات، على أجهزة الإعلام، وبخاصة الفضائيات. كانت المحصلة كما هو متوقع انهيار متسارع فى أخلاقيات المهنة الإعلامية وبخاصة بعد أن تولى مسئولية الحشد والتعبئة أسوأ من أفرزتهم تجربة الإعلام الفضائى.

ثانيا، عودة الخطاب السياسى فى كافة العواصم العربية إلى مستواه التقليدى والروتينى، هادفا إلى إطفاء جذوة الثورة وإجهاض مبادرات وخطط التغيير والإصلاح.

ثالثا، تسريع بإعادة رسم خرائط لحدود داخلية جديدة، أى داخل الدول. تقوم هذه الحدود على أسس أمنية فى الغالب ولكن تقوم أيضا لاعتبارات قبلية وعرقية وطائفية، أكثر ما تقوم على أسس ولاعتبارات اقتصادية واجتماعية.

رابعا، زادت التوجهات والسياسات «الأبوية» فى ممارسات معظم الدول العربية التى لم تصل إليها بعد نسائم الربيع العربى.

خامسا، استمر تصاعد أسعار السلع والخدمات الضرورية فى كافة أنحاء المنطقة العربية فى وقت انخفضت فيه بشكل عام الدخول الحقيقية للأفراد.

سادسا، بقيت المعارضة على حالها بدون تقدم يذكر فى أساليب عملها وتطوير أفكارها. لم تستعد لمستقبل مر سريعا. والآن هى غير مستعدة لمستقبل وشيك بخطاب سياسى جديد أو أفكار ذكية. بقيت معظم تشكيلاتها وهياكلها متخلفة وفى الغالب غير ديمقراطية. وبدت أمام الجماهير غير مبالية بمشاركته، مؤكدة اتهام الجماهير لها بشراكتها فى مسئولية التدهور الذى أدى فى نهاية المطاف إلى اشتعال ثورة يناير. من هنا كان محل اهتمام كبير فى التحليلات الأجنبية رفض الثوار لمناورات الطبقة السياسية للالتحاق بركب الثورات.

سابعا، فشلت «الدولة فى العالم العربى» فى أن تلعب دور الحكم بين المصالح وبين الطبقات وبين الجماعات، فى مرحلة بالغة التوتر والاضطراب. ساهم هذا الفشل فى خفض رصيدها وعرض استقرارها للاهتزاز وشجع عناصر طائفية وخارجية على إثارة القلق وعدم الثقة فى مستقبل «الدولة».

ثامنا، كنا خلال الشهور الأخيرة شهودا على حكومات عربية تزداد تصلبا ومعارضة سياسية تزداد تحجرا وشعوبا تزداد إصرارا فى طلب التغيير والإصلاح.

تاسعا، عاد مطروحا وبشدة الرفض الشعبى لخيار «الثورات السلمية». حدث هذا فى أعقاب ما كشفت عنه التطورات فى العراق عن عنف دموى مارسته حكومة المالكى ضد معارضيها وبوضوح أكثر فى أعقاب الفشل المتكرر فى تحقيق القصاص فى المحاكمات التى جرت ضد مرتكبى الجرائم ضد ثورة يناير. كشفت عنه أيضا عودة المسئولين عن الفساد إلى توظيف أجهزة الإعلام لخدمة مصالحهم، ولجوء السلطة الأمنية إلى استخدام القوة كوسيلة مفضلة، وربما أخيرة، لوقف التيار الثورى وترحيل ثورة يناير إلى غياهب النسيان.

عاشرا، تصاعد استخدام الميليشيات المسلحة والعنف ضد الاشخاص أو الجماعات، وتشددت لهجة الخطاب السياسى الصادر عن الأفراد والتنظيمات المتصارعة على السلطة فى عديد الدول العربية.

•••

خلصت التطورات والشهور الأخيرة إلى واقع جديد ينذر باستدعاء مستقبل للمنطقة العربية لن تكون بين بدائله البدائل التالية:

أولا، بديل التغيير بوسائل سلمية.

ثانيا، بديل التغيير بالاستعانة بالمؤسسات العتيقة. ليس خافيا أن الخبراء فى هذه المؤسسات محبطون أو خائبو الأمل فى قدرتهم، وقدرة مؤسساتهم على تحقيق التغيير المنشود. فضلا على الهجرة الواسعة للأدمغة التى شهدتها معظم الدول المأزومة فى المنطقة العربية.

ثالثا، بديل الاستقرار والوحدة والعودة إلى النسيج الواحد فى دول متعددة الأديان أو المذاهب أو الأعراق. سيكون أقرب إلى الاستحالة تجييش جيوش جديدة لتحقيق هذه الوحدة، وأن تقبل دول الجوار تغيير أوضاع معينة فى داخل الدول العربية المجاورة، وأن تلتزم قوى التطرف الصمت داخل المجتمع ولا تتدخل لإحباط هذا البديل.

رابعا، بديل استخدام هيبة الدولة لحشد الأمة وتعبئتها. هذه الهيبة سقطت تحت وقع أساليب العنف والقمع التى استخدمت ضد الثوار فى دول الربيع العربى.

خامسا، بديل إقامة تحالف أو ائتلاف أمنى أو سياسى إقليمى يعيد إلى الشعوب الثقة فى المستقبل ويضمن حماية الدول الأعضاء من عصابات التطرف والتدخل الخارجى. لا ننسى أن قدرة معظم الدول العربية على تحمل تكاليف إقامة هذه التحالفات صارت محدودة بالوقت والمال والشكوك المتبادلة.

سادسا، بديل عودة مصر إلى ممارسة دور قيادى أو ريادى أو توجيهى، فشروط العودة غير متوفرة فى المستقبل المنظور، والجهد المطلوب لتحقيق هذا الدور يتجاوز إمكانات وخبرات الطبقة السياسية التى احتضنت نظام الرئيس مبارك، وتحاول الآن احتضان النظام القائم.

سابعا، بديل العودة للاستعمار الأجنبى، وها نحن نرى أكثر من دولة عربية تجرب هذا البديل المشحون باحتمالات ردود فعل إرهابية عنيفة من أطراف كثيرة.

ثامنا، بديل الانفراط الإقليمى والانفراط الوطنى، أقصد بالانفراط الإقليمى تبعثر النظام العربى فى فوضى «نظامية» شاملة، ولكنى أقصد أيضا ميل دول وحكام وسياسيين إلى الأخذ بخيار الانعزال بالابتعاد عن التزامات تفرضها عضوية النظام الإقليمى العربى. هناك دولة عربية خليجية جربت هذا البديل لسنوات عديدة، وهناك مصر فى عهد مبارك حين قررت تجاهل أو إهمال «النظام العربى»، هذا إلى جانب واقع أن هناك عددا من الدول العربية يقف الآن على مسافة بعيدة من هذا النظام. هذه الدول هى العراق وسوريا والصومال والسودان وليبيا، ودول أخرى لا تخفى نيتها فى الابتعاد بإرادتها، إذا كان فى هذا الابتعاد ما يضمن لها حصانة ضد رياح التغيير الثورى.

•••

حاولت فى هذه السطور التعرف عن قرب على مستقبل وشيك بدت لى أغلب مكوناته غير جاهزة بعد لاستعادة الأمل إلى نفوس ملايين العرب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved