لماذا مدائن العقاد ؟! (4) ا

رجائي عطية
رجائي عطية

آخر تحديث: الأربعاء 18 ديسمبر 2019 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

لا نبالغ إذا أبدينا أن الأستاذ العقاد عاشق من منبته للجمال والحرية، وقد كتب فى فبراير 1923 عن الصلة بينهما، فقرن بين حب الأمم للحرية، وبين حبها للجمال وللفنون الجميلة.
فالأمم تعرف الحرية حين تفاضل بين الجميل والأجمل، وبين المحبوب والأحب والأوقع فى القلب والأدنى إلى إرضاء الذوق وإعجاب الحس. ولا يكون ذلك إلا حين تحب الجمال منظورا أو مسموعا أو جائلا فى النفس.
وقد لا يكون التصايح بالحرية حبا حقيقيا للحرية، وقد يكون أقوى فى التعبير عن هذه الحرية إجماع أمة على الإعجاب بعمل فنى جميل.. فذلك أدل على صميم طباعها من ألف خطبة سياسية وألف مظاهرة وألف دستور يشرع على الورق ولا عاصم له فى النفوس.
إن الإنسان مسوق إلى حب الجمال حين يحبه بدافع من نفسه لا سلطان له ولا لأحد عليه، وقد يبلغ التعلق بالجمال الحى بصاحبه مبلغا لا تبلغه به علاقات الأَسر الممض المرهق الذى لا قبل له بالتخلص منه.. ثم إن هناك فارقا لا يخطئه البصيـر بيـن انسياق قوامه المحبة والإحساس بالجمال، وبين رضوخ قوامه الاضطرار الشديد أو الطاعة العمياء!
ثم ينبغى أن نفرق بين تمييز الجمال والتعلق بالشىء الجميل.. فإن التعلق من الهوى، والهوى ضرب من الضرورة القاهرة.. أما التمييز فلا ضرورة فيه، أو هو أبعد ما يكون عن عسف الضرورة.
فلا مرية إذن للإنسان أرقى وأكمل من حرية التمييز بين محاسن الأشياء، ولا حرية لأمة ليس لها نصيب من الفن الجميل.
وللفنون الجميلة أيضا مقياس من الحرية لا يضل فيه القياس، فكلما زاد نصيبها من الحرية سمت طبقتها فى الجمال، وكلما قَلَّ نصيبها منها ابتعدت عن طبيعة الفن الجميل واقتربت من الصناعات النفعية والشواغل الضرورية. لهذا كان التقليد فى الفن قبيحا لأنه من العبودية لا من الحرية، وكان الاكتفاء بالنقل عن الطبيعة أضعف مراتب الفن، ولا يكون الفن فنا جميلا عاليا إلاَ حين يصبغ الطبيعة بصبغة النفس التى تمثلها، جامعة بين كمال الطبيعة وكمال الحياة.
* * *
يبدى الأستاذ العقاد أنه مرت به أيام أنكر فيها من حال أمتنا المصرية غلبة الضرورة على جميع مرافقها، وتحكم الحاجة فى عامة شئونها. كان يراها أمة زرع وغرس لا تعنى بغرس الزهر، وتحتاج لجلب العطور من بلاد بعيدة ليست بأخصب من مصر أرضا ولا أجود منها مناخا لغرس الأزهار واستخراج العطور.
اكتفينا بالطعام الضرورى لحاجات الجسد، وتركنا ما هو لازم لإشباع النفوس بحسن الذوق وحب الجمال.. ولو دام ذلك لكان مجلبا لليأس، وهو يأس قال فيه الأستاذ العقاد شعرا من ثمانى سنوات قبل كتابته هذا المقال، إبان كابوس الحرب العالمية الأولى، ومع ذلك لم يبادر بالقصيدة إلى النشر، وحسنا فعل.. فلم يلبث أن رأى بشائر للنهضة وطلائع للحرية، ورأى الرياض والبساتين تأخذ لها مكانا من الحقول ومن العقول، وجعل المصريون يقيمون معرضا للصور بالقاهرة، يسجلون فيه بالريشة تحيتهم إلى الحرية فى عصر النهضة العامة.
* * *
تمثلت هذه البشاير التى تفاءل بها بإقامة معرض للصور والفنون الجميلة، وهو وإن كان لم يبلغ كامل الرضا والرجاء، إلا أنه شف عن بدايات عمل قومى يربط الأمة المصرية بالجمال والفنون الجميلة، لا سيما وقد تلاه معرض ثانٍ فى العام التالى ازدان بلوحات جيدة، تناول الأستاذ العقاد فيما تناوله منها لوحة «الدرويش يتوضأ» للأستاذ راغب عياد ففيها اقتحام على الخيال وجرأة على التصرف.
ويدأب الأستاذ العاقد على هذا الربط بين الجمال والفنون الجميلة، وبين حب الأمم للحرية، وهو لما يزل فى أول الثلاثينيات من عمره، فعاود فى العام الثالث كتابة مقال للبلاغ فى مارس 1924 ضمه فى مجموعة «المطالعات» ــ عن معرض الفنون السنوى الجديد، مستهلا إياه بأن الحياة بغير «الروح الفنية» عبثٌ وخواء لا يفطن إليه من يعيشون فى الدنيا ولا يشعرون، أو يوجدون ولا يشعرون.
والحقيقة أن الإنسان لا يحيا الحياة الكاملة، إلا إذا أشبع حسه مما يحيط به، وملأ نفسه من تصور ما تقع عليه حواسه. هذه هى الحياة.
ليس من الممكن، ولا هو حاصل، أن يُخلق الناس جميعا على مشرب واحد فى حب الفن والالتفات إلى المظاهر الفنية فى الحياة. بيد أنه ليس صعبا، ولا هو محال، أن يُراض أصحاب النظر الواحد ــ بالتربية والمران ــ على النظر للحياة بعين تشبعهم من محاسنها وجمالها بالقدر الذى تتسع له نفوسهم وقرائحهم.
آنذاك ـ وقد شغفنا بالحرية، وقدرناها وجعلنا الهتاف لها تكبيرة جديدة فى جهادنا وعملنا، فإنه لا يجمل بنا أن تكون نظرتنا إلى الدنيا خالية من تذوق قيم الجمال والحرية، أو أن يكون الإكراه أساس علاقاتنا بها، وإنما الذى يجمل بنا أن نفهمه ــ أن قيود الضرورة هى مقياس أو مسبار أو مؤشر ما فى النفوس من جوهر الحرية الصحيحة، وأن القيود التى تثقل بها أعضاء البهلوان الماهر هى مسبار أو مقياس مهارته أو قدرته على التمويه والوثب واللعب. أما الوسيلة التى نفهم بها هذه الحقيقة النفسية، فهى «الفن الجميل» أو «الملكة» التى يُدْرَك بها الفن الجميل.
هكذا يجب أن تكون الحياة، وعلى هذا المعنى يجـب أن نفهـم ضروراتهـا وقوانينها. فما الضرورات والقوانين إلا القالب الذى تحصر فيه الحياة عند صبها وصياغتها، فيكون لها حيز محدود فى الوجود، ولتسلم من العدم المطلق الذى تسير بها الفوضى إليه.. وإلا فعلينا أن نتصور عالما خاليا من النسق والنظام ولا موانع فيه ولا أثقال، وأن ننظر إلى ماذا سوف يكون عليه هذا العالم!
المظنون بين الأكثرين، أن الفنون الجميلة عمل عقيم خالٍ من المنافع المحسوسة. هذا الظن نشأ عن جهل بمصادر الأعمال ودوافع الحركة فى النفس. أما الذى تثبته المشاهدة وتؤيده التجربة والخبرة، فهو أن العامل لا يجوِد عمله ولا يحذق فى صناعته، إلا بقدر ما عنده من براعة الحس والتصور التى هى جزء من براعة الفن الجميل.
فلا صناعة ولا تجارة ولا زراعة، ولا علم ولا عمل من أعمال هذه الحياة، يمكن أن يتم على الوجه الأمثل فى يد صانع أو تاجر أو زارع أوعامل ــ بلا ذوق فى سليقته الجمال، وبلا قدرة له فى تناول ما يتناوله من الأشياء كما تتناولها يد الفنان.
يختم الأستاذ العقاد هذا المقال الذى يحلق فيه حول الحرية والفن الجميل، بأنه كان يقرأ منذ أيام فصلا عن «التلون الواقى للحيوانات» للعالم الإنجليزى «لانكستر»، فوجده يحمد للمصور الأمريكى «أيوت ثاير» يدا على العلم أسداها إلى علماء التاريخ الطبيعى، بما نبههم إليه من طبائع التلون والتلوين والتظليل والتوافق بين الألوان فى بعض الطيور والحيوانات، فتساءل فى نفسه كم من أمثال هذه الحقائق كان يمكن أن يُسرع ظهورها إلى العلماء، لو رزقوا من الفطنة وقوة وحذاقة العين الفنية بالقدر الذى رُزِق به المصور الأمريكى «أيوت ثاير» وزملاؤه فى كل فن من الفنون الجميلة؟! وكم من دقائق فى الصناعات النافعة كان يمكن أن تبرز وتتضح للمخترعين لو طبعوا على «دقة الحسن» التى طُبع عليها رجال الفنون؟! إن فضل «الملكة الفنية» على كل فرع من فروع العلوم والصناعات، لأظهر وأوضح من أن يزيده الإيضاح.

Email :rattia2@hotmail.com
www.ragai2009.com

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved