دلتا وأوميكرون: بين الشمال والجنوب

وليد محمود عبد الناصر
وليد محمود عبد الناصر

آخر تحديث: السبت 18 ديسمبر 2021 - 3:00 م بتوقيت القاهرة

جاء ظهور متحور «أوميكرون» الجديد، ضمن العديد من متحورات فيروس «كورونا» المستجد المتعارف عليه باسم «كوفيد 19»، ليكتسب أبعادا أكثر عمقا وتعقيدا من مجرد كونه متحورا جديدا لفيروس أتعب العالم لما يفوق العامين الآن، وليتجاوز كونه محلا لمجادلات ونقاشات ذات طابع علمى وطبى وصحى بحت، ليدخل فى دائرة الموضوعات التى تثير التجاذب بين بلدان الشمال المتقدمة أو التى تمر بمراحل تحول، وبين بلدان الجنوب، سواء البازغة منها أو النامية أو الأقل نموا، وبما يضعه فى سياق ثقافة اللوم المتبادل بين الطرفين، استمرارا لميراث قديم متجدد ومرير فى إلقاء كل طرف المسئولية على الطرف الآخر، فيما يتعلق بمشكلات أو تحديات أو أزمات واجهتها البشرية فى الماضى أو تواجهها فى الحاضر، وهو نمط يراهن الكثير من المحللين أنه مرشح بقوة للاستمرار فى المستقبل أيضا.


ففيروس «كوفيد 19»، ومنذ ظهوره واكتشافه، استمر محورا للكثير من تجاذب الحديث حول الطرف المسئول عن ظهوره، سواء كان فيروسا طبيعيا أم كان قد تم تطويره داخل أحد المعامل وتسرب خارجه عمدا أو عن غير قصد، ثم حول الطرف المسئول عن انتشاره بعد تأخر الإعلان عنه، ومن ثم الطرف المسئول عن هذا الحجم الضخم من الضحايا له، سواء ممن توفاهم الله أو من المصابين، بسبب هذا التأخير فى الكشف عنه والذى ترتب عليه التأخير فى البدء فى السعى نحو إيجاد لقاح يحفظ من الإصابة به. وارتبط بذلك التجاذب بطبيعة الحال الآثار الاقتصادية الضخمة التى نتجت عن انتشار الفيروس واتساع رقعته، والتى أثرت بالتأكيد على مجمل الاقتصاد العالمى بقدر ما أثرت به على الاقتصاديات الوطنية، فى الشمال وفى الجنوب على حد سواء، ثم كانت هناك آثار لا تقل أهمية ولا ضراوة عن الخسائر الصحية والاقتصادية، بما فى ذلك فى الميادين الاجتماعية والثقافية والنفسية وغيرها.


فقد عملت المجتمعات الغربية فى غرب ووسط أوروبا وفى أمريكا الشمالية وفى آسيا على التعايش مع متحور «دلتا»، ومن بعده متحور «دلتا +»، وقاومت، على الأقل حتى الآن، إعادة فرض إجراءات الإغلاق بالرغم من الأعداد الضخمة التى تصاب بشكل يومى بهذين المتحورين، خاصة الأخير منهما، أيضا فى ضوء صعوبة اتخاذ قرارات بمثل هذا الإغلاق على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والنفسية لمواطنيها والمقيمين على أراضيها، وأيضا فى ضوء دفع حكومات تلك الدول بشمول التطعيمات باللقاحات ضد فيروس «كوفيد 19» لغالبية مواطنيها والمقيمين على أراضيها، وبالتالى توفير ذلك لقدر من الأمان لمن تلقوا اللقاح فى مواجهة متحورى «دلتا» و«دلتا +»، على الأقل فى ظل ما أعلنته الشركات المنتجة لتلك اللقاحات عن المناعة التى يعطيها اللقاح فى مواجهة المتحورات التى ظهرت فى تلك المجتمعات.


وقد سبق وأن اتهمت بلدان الجنوب بلدان الشمال بالمسئولية عن نشأة وتطور متحورى «دلتا» و«دلتا +»، بالإضافة إلى بعض المتحورات الأخرى، وجاءت تلك الاتهامات على خلفية أمرين متصلين ببعضهما البعض، أما الأول فهو التوزيع غير العادل للقاحات المؤثرة والفعالة ضد الفيروس، والتى هى فى الأساس منتجة فى البلدان الغربية، وعدم وصولها بأعداد كافية لبلدان الجنوب بسبب تكلفتها المالية المرتفعة، وأما الثانى فهو عدم لعب حكومات البلدان المتقدمة دورا إيجابيا ودافعا، على النحو الكافى، فى اتجاه تحفيز شركاتها المنتجة للقاحات على توفيرها بأسعار فى متناول بلدان الجنوب، وذلك على اعتبار أن المشهد العالمى فى حالة استثنائية بسبب استفحال الوباء ومتحوراته، ومن ثم يتعين تقديم تنازلات جدية وذات قيمة ومعنى من جانب الشركات المنتجة للقاحات فيما يتعلق بأرباحها المادية فى سبيل غاية أسمى وأعم وأشمل وهى السعى لمحاصرة الوباء وتحجيم أضراره الإنسانية العالمية.


وبالمقابل، وعندما أعلنت جنوب أفريقيا عن اكتشاف متحور «أوميكرون» ونقلت للعالم بأسره فى وقت مبكر نسبيا المعلومات التى توافرت لديها عنه بهدف المساعدة على حسن الإعداد لمواجهته من جانب بقية بلدان العالم، فقد واجهت غمزا ولمزا من هنا وهناك فى بلدان الشمال يوحى بعضها بعدم الثقة فى أن ما أعلنته جنوب أفريقيا وسلطاتها الصحية هو الحقيقة كاملة وبكل تفاصيلها، بل واتهمت بعض الدوائر فى بعض بلدان الشمال بأن عدم كفاءة الإجراءات الصحية المتخذة من قبل السلطات الصحية فى جنوب أفريقيا هى السبب فى ظهور هذا المتحور الجديد وسرعة تفشيه وانتشاره، سواء داخل جنوب أفريقيا أو فى البلدان المحيطة بها فى منطقة الجنوب الأفريقى والتى انتشر المتحور الجديد بين صفوف سكانها بسرعة البرق.


حدث ذلك فى وقت كانت جنوب أفريقيا وغيرها من بلدان الجنوب تتوقع الإعراب عن العرفان من بلدان الشمال وبقية دول العالم لصافرات الإنذار المبكر التى أطلقتها تلك البلدان بشأن طبيعة متحور «أوميكرون» وخصائصه وخطورته من حيث المعدلات المتناهية السرعة لانتقال العدوى به، بهدف التحذير منه والتنبيه على الآخرين بضرورة سرعة وحسن الاستعداد لمواجهته. إلا أنها فوجئت بردود فعل مختلفة عن ذلك تماما، سواء من جانب حالة التناول الإعلامى الغالبة أو من جانب جهات أخرى فى بلدان الشمال خاطبت شعوب الشمال بأن «الخطر» قادم من الجنوب «مجددا»، على اعتبار أن الفيروس الأصلى فى المقام الأول قد جاء إلى أوروبا ثم غيرها من أقاليم الشمال من الصين فى الأساس، وربط ذلك بالتشكيك فى جدية الإجراءات المتخذة من قبل بلدان الجنوب لمواجهة الفيروس ومتحوراته، وهو ما كان قد سبقه حملة فى التشكيك فى جدية اختبارات الـ «بى سى آر» التى تقوم بها معامل فى العديد من بلدان الجنوب لتحديد المصابين بالفيروس بشكل إيجابى.


ولكن بلدان الجنوب لم تكن لتترك الفرصة تمر بدون إعادة فتح ملف اللقاحات، الذى لم يكن فى واقع الأمر قد تم إغلاقه على الصعيد الرسمى المتعدد الأطراف فى المنظمات الدولية ذات الصلة وعبر ساحات التفاوض الثنائى أو المتعدد الأطراف، فأسرعت بلدان الجنوب بإلقاء الكرة فى ملعب بلدان الشمال من خلال التذكير بما رأته الأولى تقصيرا من جانب الأخيرة فى ضمان «ديمقراطية» توافر اللقاحات المقاومة للفيروس، وما اعتبرته تقاعسا منها فى ممارسة الضغوط على شركاتها المنتجة لتلك اللقاحات لتحقيق توزيع أوسع وأسرع للقاحات عبر بوابة تقليل الأرباح المالية للشركات المنتجة، خاصة فى ضوء استثنائية الظرف، وفى ضوء حقيقة أن حكومات الشمال فى العديد من الحالات قدمت الدعم المادى القوى فى البداية لتلك الشركات لتمكينها من تمويل أنشطة البحث العلمى الضرورية لتطوير اللقاحات ثم لإجراء التجارب المعملية وغير المعملية عليها حتى وصلت إلى مرحلة الإنتاج على نطاق واسع، ومن ثم التسويق والتصدير للقاحات.


ومن المتوقع أن تكون المرحلة الجارية من التجاذب بشأن متحور «أوميكرون» مجرد حلقة فى سلسلة لا يعتقد الكثير من المراقبين أنها ستنتهى قريبا من تبادل إلقاء اللوم بشأن التطورات ذات الصلة بفيروس «كوفيد 19» ومتحوراته، خاصة بين بلدان الشمال والجنوب فى هذه الحالة، وضمن حالة أعم وأشمل من الجدل ومقارعة الحجج فيما بين مختلف الفصائل والتيارات صاحبة المواقف بشأن الفيروس ومتحوراته، منذ اكتشافه وحتى اليوم، وحتى إلى ما بعد أن يزول هذا الفيروس وتبقى مع البشرية تداعياته، بشأن نشأته ومسيرة تطوره وانتشاره وطرق مقاومته والوقاية منه وارتباط ذلك كله بأبعاد أوسع بكثير من الاعتبارات الطبية أو الصحية أو العلمية البحتة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved