أحيانًا يكون البعد أفضل

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 18 ديسمبر 2021 - 7:35 م بتوقيت القاهرة

بعيدًا عن الصورة الكاريكاتورية للموظف الذى يحضر اجتماعات شغله وهو جالس على الأريكة فى منزله بملابس النوم، عبر تقنية الفيديو كونفراس أو غيرها، لابد وأن نعترف أن تجربة الكوفيد ساهمت فى تغيير شكل العمل، وسرعت من إمكانات التجاوب مع فكرة العمل عن بُعد. فى السابق كانت هناك دول بعينها أكثر نشاطا من دول أخرى فى هذا المجال وأكثر تفهمًا لطبيعة العمل عن بُعد، وظلت بعض الشركات فى بداية الجائحة متحفظة تجاه الفكرة خوفا من نقص الإنتاجية والتراخى. لكن مع الوقت اتضحت أكثر محاسن ومسالب العمل عن بُعد، وبالنسبة للكثيرين طغت الأولى على الأخيرة حتى شجعتهم على الاستمرار فيه بعد انتهاء الأزمة. وكان من بين هؤلاء بالطبع كبرى شركات وادى السيليكون بولاية كاليفورنيا الأمريكية مثل جوجل وفيسبوك ومايكروسوفت وتويتر، فعلى سبيل المثال صرحت مصادر مسئولة بهذه الأخيرة بعد أشهر من بداية التجربة أنها ستعتمدها لأجلٍ غير مسمى، وأنها راضية عن نتائج مقابلات التوظيف التى تمت بالفيديو كونفراس وستستمر فى هذا التقليد.
مارك زوكربيرج، مؤسس ومدير فيسبوك، أعلن من ناحيته أنه خلال مدة تتراوح بين خمس وعشر سنوات من الآن سيعمل نصف موظفيه من منازلهم بشكل دائم. أما مايكروسوفت فقد قررت أن عددا لا بأس به من موظفيها سيعمل عن بُعد بشكل جزئى أو كامل، وفقا لطبيعة المهام الموكلة إليهم. وقامت شركة أورنج بدورها بإجراء دراسة جادة حول الظاهرة الآخذة فى التنامى، معتمدة فى ذلك على مجموعة من سبعين موظفا من تخصصات وأعمار وثقافات مختلفة، بسبب اقتناعها أن عصر التواجد فى الشركة أو مؤسسة العمل بنسبة مائة بالمائة ذهب بلا رجعة.
•••
اتسعت مجالات العمل عن بُعد ولم تعد قاصرة على مهن بعينها تتعلق بالفكر والبحث والإعلام والبنوك والتأمين والبرمجيات، بل امتدت إلى نواحٍ مختلفة كنا نظنها مستبعدة، ففى ظل الكوفيد صار للضرورة أحكام وكان يجب أن نتأقلم. وبما أن الحاجة هى أم الاختراع فقد أصبح لزاما علينا أن نعيد اختراع شكل العمل، ونتمرد على القواعد المؤسسية التقليدية الخاصة بوحدة الزمان والمكان والنشاط. أصبح لزاما على المديرين أن يعتمدوا طرقا مختلفة تتلاءم مع بيئة العمل الافتراضية، أن يبدعوا كى يحافظوا على التواصل بين موظفيهم، أن يلجأوا إلى أوقات راحة ودردشة أونلاين، إلى ما غير ذلك. ومن هنا ظهر الفارق بين مدرستين فى الإدارة، واحدة أكثر صرامة وتقليدية قائمة على التراتبية والسيطرة أو التدخل فى أدق التفاصيل، فى مقابل أخرى أكثر مرونة تسعى إلى تحفيز العاملين من خلال إعطائهم الثقة والمسئولية وحرية التصرف وتفويض السلطات. وكانت بالطبع هذه الأخيرة هى الأنجح فى تجربة العمل عن البعد، أما الأولى فمازالت متمسكة بفكرة الحضور والانصراف والتواجد العقيم حتى دون جدوى. ونحن بالطبع فى مصر أقرب إلى هذه العقلية، ففى أحيان كثيرة نشعر أننا نعيش بين ديناصورات منقرضة، العالم كله فى وادٍ وهى فى وادٍ آخر، حتى لو كلفها ذلك أموالا طائلة وخسائر تدفع ثمنها غاليا.
العديد من مؤسساتنا الضخمة لم تنظر بشكل جدى إلى حجم المبالغ ومصاريف التشغيل التى من الممكن توفيرها إذا استمر موظفوها فى العمل عن بعد ولو لبضعة أيام من الأسبوع: كهرباء وتليفونات وإنترنت وأدوات نظافة وتعقيم، إلخ.. إلخ، بالإضافة إلى تأثير ذلك على زحام الشوارع وعدد السيارات ونسبة التلوث. يُفضل بعض المدراء أن يظل مستخدموهم تحت أعينهم، والموضوع يتعلق أحيانا بالعمر ومدى القدرة على التعامل والتكيف مع التكنولوجيا الحديثة، إذ لابد أن نعترف أيضا بوجود تباين شديد فى المستويات بهذا الصدد، سواء على مستوى الأفراد أو الدول، فهناك مجتمعات أكثر تقدما لديها إمكانيات أكبر وأخرى تحبو وسط تطور سريع، إذ ينبغى علينا الإشارة إلى بعض المشكلات التى تواجه من لا يملكون مكانا مناسبا للعمل من المنزل أو من يعانون من ضعف شبكة الانترنت أو لا يستطيعون توفير ثمن الباقات أو أجهدتهم متابعة دراسة أبنائهم الذين كانوا يعملون معهم أيضا دون مغادرة البيت بسبب الظروف العامة أو شعروا بالوحدة وارتبك روتين حياتهم.
•••
لكن على الرغم من كل هذه الصعوبات، أثبتت دراسة أجراها مؤخرا باحثون من كلية هارفارد للأعمال وجامعة نيويورك أن العاملين عن بُعد يقضون يوميا حوالى 48 دقيقة فى العمل أكثر من أقرانهم الذين يذهبون إلى مكاتبهم، وأن تحسن الأداء وتجنب مظاهر بيئة العمل السامة أحيانا وعدم تضييع الوقت والجهد فى المهاترات والمواصلات، وإنجاز الاجتماعات بسرعة وفاعلية أكبر فى بيئة افتراضية، ومرونة ساعات العمل، جميعها عوامل تغرى بدراسة الأمر بشكل أكثر جدية وعمق، فالعالم كله يحتاج إلى تقنين أوضاع العمل عن بعد وتعديل اللوائح وتوفير أطر قانونية توضح ما على الأفراد والمؤسسات وما عليها، وتنظم شكل العلاقات، خاصة وأن أفكارا مثل نقل موظفى بعض الشركات العالمية إلى بلاد أقل تكلفة مثلما حدث فى مجال الصناعة صارت مطروحة بشدة بعد التجربة الأخيرة، فأحد العاملين بمؤسسة أمريكية يستطيع أن يتابع مهامه عن بُعد وهو يسكن فى بلد أقل تكلفة كمصر أو الهند مثلا، كل ما عليه أن يراعى فروق التوقيت ويعيد تنظيم يومه. لم يعد يمكن العودة إلى الوراء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved