دروس المغرب من خارج ملاعب كرة القدم

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 18 ديسمبر 2022 - 10:25 م بتوقيت القاهرة

أكتب هذا المقال قبل مواجهة فريق المغرب منافسه الكرواتى على الموقع الثالث فى مسابقة كأس العالم الثانية والعشرين لكرة القدم فى قطر، وأيا تكون نتيجة هذه المباراة، فلاشك أن وصول الفريق المغربى إلى دورى نصف نهائى الكأس هو مصدر فخر لشعب المغرب وللعرب والأفارقة، فهذا إنجاز غير مسبوق، وقد كانت دلالات السعادة العربية والأفريقية بهذا النجاح عديدة ولا تقتصر على الجماهير التى شاهدت المباراة فى قطر، ولكنها كانت واضحة فى تعليقات الصحف العربية والأفريقية على أداء الفريق المغربى، وحتى فى تغطية الصحافة وأدوات الإعلام خارج الوطن العربى، وبالطبع سوف يكثر الحديث فى الأوساط الرياضية العربية والأفريقية حول كيفية التعلم من دروس هذه الرحلة المغربية فى رفع مستوى فرق كرة القدم فى بلدانها. موضوع هذا المقال ليس حول دروس الرياضة المغربية، ولكن حول دروس أخرى حافلة بالعظات تجب معرفتها عن المغرب، بعضها جدير بأن يتبع، وبعضها الآخر يستحق أن نتأمله مليا، فإذا كان بعضها مما يستحق أن نحفل به، فإن بعضها الآخر يدعونا إلى أن نفكر لماذا اتبعت الدوائر الحاكمة فى المغرب هذا الطريق. الدروس التى يمكن أن نتعلم منها هى انفتاح النظام السياسى المغربى على التعددية السياسية الحزبية والنقابية والمجتمعية، ونجاح إصلاحاته الاقتصادية، وتجربة الحكم المحلى فيه، وولع المغاربة بالحفاظ على تراثهم الحضرى، والدروس التى تدعونا للتأمل هى مكانة العرش فى الحياة السياسية وعلاقات القصر المغربى بإسرائيل والتى تعود إلى عقود ست ماضية، والتى تعززت كثيرا فى الشهور الأخيرة.

التعددية السياسية فى المغرب
النظام السياسى المغربى نظام تعددى، ينعكس ذلك جليا فى نظامه الحزبى، وفى تكوينات المجتمع المدنى، وفى الاعتراف بتنوع ثقافاته، والترحيب بهذا التنوع وإفساح المجال للتعبير عنه بوسائل متعددة. دستور المغرب منذ استقلاله يحظر نظام الحزب الواحد، وتتولى السلطتين التشريعية والتنفيذية فيه مؤسسات منتخبة. ونطاق التعددية الحزبية فيه واسع يمتد من الأحزاب الموالية للعرش إلى الأحزاب التى شاركت فى النضال من أجل الاستقلال، وإلى الأحزاب الاشتراكية والشيوعية وانتهاء بالأحزاب الإسلامية. وإذا كانت الحكومات التى تشكلت عقب استقلال المغرب قد غلب عليها الأحزاب المدعومة من القصر وأحيانا حزب الاستقلال إلا أن تداول السلطة فيما بينها قد بدأ مع نهاية القرن العشرين بتوالى تكوين الحكومات من جانب ائتلافات قادها أحيانا حزب الاتحاد الاشتراكى وقادها أحيانا أخرى حزب العدالة والتنمية ذو المرجعية الإسلامية. وبذلك تكون المغرب هى الدولة العربية الوحيدة التى عرفت تداول السلطة التنفيذية من خلال صندوق الانتخابات.
ولا تقتصر التعددية السياسية فى المغرب على الأحزاب السياسية، ولكنها تمتد إلى مكونات المجتمع المدنى، فالتنظيم النقابى يقوم على مبدأ حرية التنظيم، وليس بالضرورة وحدته حتى بين من يمارسون مهنة واحدة، ولذلك تعرف النقابات المهنية والعمالية هذا التعدد. فنقابة المحامين هى أقرب إلى فيدرالية بين هيئات للمحامين أساسها إقليمى، كما توجد أكثر من نقابة للأطباء، كما تتعدد اتحادات نقابات العمال التى تعكس بدورها تنوع التيارات الفكرية والانتماءات السياسية لهذه النقابات، وهناك ما لا يقل عن تسعة من هذه الاتحادات النقابية من أهمها الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد المغربى للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب. بل وبعد تردد شديد ومطالبات عديدة من جانب الجمعيات والمثقفين الأمازيغيين اعترفت الأحزاب السياسية فى المغرب وفى مقدمتها كل من الاتحاد الاشتراكى للقوات الشعبية وحزب العدالة والتنمية بالمكون الأمازيغى للثقافة المغربية، وبعدالة المطالبة بتبنى اللغة الأمازيغية كلغة رسمية، وهو ما اعترف به دستور ٢٠١١، وكان حزب الحركة الشعبية قد تشكل منذ سنوات النضال من أجل الاستقلال كحزب أمازيغى، وجرى استخدام الأمازيغية أحيانا فى المؤتمرات الانتخابية فى مناطق الأمازيغ بل وكذلك فى مناقشات برلمانية، وإن كان ذلك لم يرض تماما مطالب المثقفين الأمازيغيين الذين يشكون من تهميش الأمازيغية رغم أن الأمازيغ يمثلون فى رأيهم ليس أقل من ٦٠ فى المائة من سكان المغرب.

الإصلاح الاقتصادى
لم يخرج بعد المغرب من وضع الدول النامية للارتقاء إلى مكانة الدول الصناعية الجديدة مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة، ولكن الإصلاحات الاقتصادية التى جرت فيه منذ التسعينيات أنعشت دور القطاع الخاص واجتذبت رءوس أموال أجنبية إلى قطاع الصناعة والذى أصبح مع قطاع البناء والتعدين يساهم بحوالى ثلث عمالة البلاد، وأصبح تصدير السيارات يحتل قائمة صادراته بما يقرب من أربعة مليارات من الدولارات، كما يشارك عمال المغرب فى صناعة طائرة إيرباس الأوروبية وصار المغرب خامس اقتصاد فى أفريقيا بعد كل من جنوب أفريقيا ونيجيريا والجزائر ومصر ولكنه أقل هذه البلدان من حيث عدد سكانه الذى اقترب فى سنة 2020 من ٣٧ مليون نسمة، وبعد الجزائر التى وصل إلى ٤٤ مليون نسمة.

الإدارة المحلية
ينقسم المغرب إلى ١٦ إقليما تنقسم بدورها إلى وحدات أصغر، ومع أن رأس الإدارة الحكومية فى كل إقليم هو شخص معين من جانب الحكومة إلا أن كلا من هذه الوحدات تنتخب مجلسا محليا يتمتع بسلطات هامة فى مجال مشروعات التنمية ويمارس الرقابة على الأجهزة الحكومية، وكانت نتيجة ذلك هى حسن إدارة المدن خصوصا وسائر الأقاليم، مما يلمسه الزائر أو الزائرة من نجاح هذه الأجهزة فى توفير الخدمات للمواطنين والمواطنات وخصوصا خدمات النظافة والنقل والتخلص من المخلفات.

الحفاظ على التراث الحضرى
أكثر ما يجذب الزائرين والزائرات للمغرب هو نجاح الحكومة المغربية بجميع مستوياتها المركزية والمحلية فى الحفاظ على التراث الحضرى للمغرب. لا يبدو الشعب المغربى منبهرا بنموذج التحضر الغربى والأمريكى خصوصا والذى يتسم بالمبانى العالية والشوارع الواسعة والطرق السريعة التى تخترق المدن، وهو ما اجتذب على سبيل المثال دول الخليج العربى، وسارعت فى تقليده دول أخرى فى الشرق الأوسط فى مقدمتها مصر، بل حافظ المغاربة على نمط المدينة العربية القديمة وأقاموا إلى جوارها أحياء حديثة تتناغم معها، وذلك مع الإبقاء على هوية خاصة بكل من مدنهم. الدار البيضاء هى العاصمة الاقتصادية الحديثة للمغرب، ولكنها تختلف عن مدن تجمع بين التقليد والمعاصرة فى مقدمتها بكل تأكيد مدينة الرباط عاصمة البلاد التى أعتبرها أجمل المدن العربية بمبانيها البيضاء واتساع المساحات الخضراء فيها وانسياب المرور فى شوارعها وجاذبية الحى القديم فيها، وذلك إلى جانب مدن مثل مراكش وفاس ومكناس التى لكل منها شخصيتها المتميزة. لم يجر المغاربة وراء وهم ربط الحداثة بالانتقال إلى عاصمة جديدة أو هجرة مدنهم ذات التاريخ إلى مدن جديدة تحاكى الطراز الغربى فى المعمار. ولذلك يستمتع سكان المغرب، كما يستمتع زوارهم بهذا الطابع الخاص الذى يعتز به المغاربة ويحرصون عليه ــ ويجدون فى مقدمة المدافعين عنه العرش المغربى وعلى نحو ملموس ومشهود ــ وخصوصا فى الرباط وكذلك فى الدار البيضاء بالمسجد الكبير والمنطقة المحيطة به والذى جرى بناؤه فى عهد الملك الحسن الثانى، ثانى ملوك المغرب بعد الاستقلال.

القضايا غير المحسومة
جوانب النجاح السابقة لا تثير خلافات كبيرة بين المغاربة، وهى موضع اتفاق عام فيما بينهم، ولكن تبقى قضيتان هامتان لم تحسما بعد، وهما موضع تساؤل من جانب أصدقاء المغرب من العرب ومن بين المتابعين لأحواله فى الدوائر العلمية. فى مقدمة هذه القضايا وضع العرش المغربى، والذى هو قطب الحياة السياسية فى البلاد، وإذا كان المغرب قد قطع شوطا طويلا على طريق الانتقال إلى أوضاع أكثر ديمقراطية، إلا أن المسافة مازالت طويلة بينه وتحقيق مبدأ السيادة الشعبية، ففضلا عن الهالة الدينية المحيطة بالملك بوصفه أمير المؤمنين، فهو يملك مفاتيح السلطة السياسية فى البلاد، فهو الذى يعين رئيس الوزراء، ويستند إلى عدد من الأحزاب الموالية للقصر، ويملك اختصاصات واسعة تضمن له السيطرة على مؤسسات الدفاع والأمن والأجهزة الحكومية، فما زال المغرب بعيدا عن نموذج الملكية الدستورية الذى يسود فيه الملك باعتباره رمزا لوحدة البلاد وحكما بين السلطات من ناحية، ونموذج الملكية المطلقة من ناحية أخرى، والذى كان الملك الحسن الثانى خير تعبير عنه وبالانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان التى وصمت سنوات كثيرة فى حكمه، وإن قلت إلى حد كبير فى سنواته الأخيرة وفى الوقت الحاضر. وليس هناك حظر على مناقشة موضوع الملكية الدستورية فى الصحافة المغربية، ولكن ليس هناك أى توافق على ذلك بين الأحزاب المغربية، بل وليس هناك حوار بينها حولها.
والقضية الثانية هى العلاقات مع إسرائيل، وهى علاقات قديمة أرجعها المرحوم الأستاذ محمد حسنين هيكل إلى النصف الثانى من ستينيات القرن الماضى، وكان تفسيره أن الملك الحسن تصور أن الحكومة المصرية فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر كانت تساند الجزائر فى نزاعها الحدودى مع المغرب، بل أنها كانت وراء مؤامرة فاشلة على الملك الحسن ذاته دبرها وزير دفاعه أوفقير فى أغسطس 1972. ولكن هذه العلاقات استمرت سرا، حتى أن الرئيس السادات وهو يعد لزيارة إسرائيل دبر للقاء عدد من معاونيه، ومنهم الفريق كمال حسن على مدير المخابرات الأسبق مع موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلى الأسبق فى المغرب فى خريف 1977 للاتفاق على تفاصيل تلك الرحلة. تعززت هذه العلاقات كثيرا فى السنوات الأخيرة بانضمام المغرب لما يسمى بسلسلة الاتفاقات الإبراهيمية بين إسرائيل والإمارات والبحرين والسودان، بانتظام رحلات الطيران بين البلدين وبفتح الحدود على تبادل الزيارات وبالتنسيق حتى بين القوات المسلحة فى البلدين، وهو ما توج بتبادل الزيارات بين رئيس الأركان الإسرائيلى وقائد الجيش المغربى فى يوليو وسبتمبر من هذا العام. لا تلقى هذه العلاقات القوية مع إسرائيل مساندة من أحزاب مغربية كبرى، ولكنها تسكت عنها احتراما لمكانة الملك، وهى تثير شعورا بالحسرة بين محبى المغرب من العرب، وهم لا يدعون المغرب إلى شن حرب على إسرائيل، ولكن يتصورون أن التطبيع مع إسرائيل ينبغى أن يكون له مقابل، وهو التزامها عمليا باحترام الحقوق المشروعة للعرب فى أراضيهم المحتلة فى الجولان وفلسطين. ربما يكون توتر العلاقات مع الجزائر حول موضوعات عديدة هو التبرير لهذه العلاقات، ولكن، فى رأى كاتب هذه السطور على الأقل، لا يحتاج العرش المغربى ذو الأصول العريقة والماضى المجيد فى الدفاع عن استقلال البلاد مساندة إسرائيل للبقاء موضع المحبة والتقدير من المغاربة والعرب.

أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved