عبث الأتربة

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 19 يناير 2019 - 8:50 م بتوقيت القاهرة


أضبط نفسي أحيانا متلبسة وأنا أقلد جدتي تلقائيا دون أن أدري عندما أسحب قدمي العارية أسفل سجادة غرفة الجلوس لأرى إذا ما كان تحتها ذرات تراب عالقة بالأرض. القدم العارية وهي تتحسس الأرض معيار حساس يكشف ما قد يخفى على النظر. دأبت الجدة أن تستعيض بحاسة اللمس مع تدهور النظر وتزايد العمر، فكانت أيضا تختبر نظافة الشيش الخشبي والشبابيك من الخارج، ولا ترضى عن ذلك بديلا، فمهما كثرت الأتربة في الجو، يجب أن يظل شباكها براقا وأسطح الأرضيات الخشبية ملساء ومدهونة بالشمع، حتى كدنا نسقط على وجوهننا من فرط النظافة.
رحت أتخيل ردة فعلها، رحمها الله، في ظل جو أغبر في العديد من شهور السنة، بسبب تحولات الطقس الغريبة. صارت تقريبا كل أيامنا خماسين، في جميع المواسم، وسائر شهور السنة. تهب الريح وتجلب التراب، حتى تهطل الأمطار فتنقي الجو إلى حين، ثم تتوالى الروائح اليومية للتراب والعرق وعوادم السيارات التي تفعم الأنوف، في القاهرة أكثر المدن تلوثا في العالم.
***
أمشي في الشارع وأراني قد تلبد شعري وصار إبريا كالقنفذ، يحتاج إلى غسيل فوري وجيد. المدينة بأسرها صارت في الأسبوع الماضي ككتلة من الحجر الأبيض الصلد. الأشجار ملطخة بالطين، والبنايات احتواها غلاف أصفر، وأكياس الحلوى الطائرة تعبث كما يحلو لها. وعندما يدلف شعاع الشمس إلى الغرفة، نرى من خلاله طبقات الرمال التي طارت في الهواء حتى استلقت على سطح قطعة أثاث أو أخرى، وكأننا نعيش بالقرب من منخفض بوديلي في التشاد، أكثر بقاع الأرض رمالا وأتربة. نحسد أنفسنا على حسن الطالع حين نقرأ عن هذه البقعة التي لا يسكنها سوى العقارب والثعابين، بعد أن سكنها بنو البشر قبل قرون في الصحراء الشرقية، وهجروها مع انحسار المياه وتراجع البحيرة التي وجدت هناك، فمنخفض بوديلي الشهير كان قاع بحيرة قديمة فيها صخور معدنية، تتكون من كائنات عضوية مجهرية ميتة محمولة مع الفوسفور. ذهبت إلى هناك مجموعة من الباحثين، قبل سنوات قليلة، لدراسة تأثير المنخفض على كوكب الأرض وحجم العواصف الرملية التي تهب على البلاد المختلفة آتية منه، حتى لو لم نعرف على وجه الدقة كمية التراب التي ينتجها سنويا، فقط نعلم أنه أول مصدر للأتربة في العالم. وهو ممر ضيق بين سلسلتين من الجبال، تخزن فيه الرياح قبل أن تنطلق بسرعة كبيرة في صحراء من الطباشير الأبيض والصخور الرسوبية. ولم تساعد قط الظروف السياسية على معرفة المزيد، فهذه المنطقة كانت محل نزاع بين ليبيا والتشاد في ثمانينات القرن الفائت، ومن وقت لآخر تتجدد المناوشات لتذكرنا بمدى عدم استقرار الصحاري الإفريقية والمناطق الحدودية.
***
يتسلل التراب إلى أنفي وعيني. يشتد العطس والسعال، وتنخفض الرؤية عموما، فأفكر إلى أي مدى ممكن أن تصل درجة إزعاج ذرة تراب لا يتجاوز سمكها بضع مئات النانومترات (وحدة قياس الأطوال القصيرة جدا، جزء من مليار جزء من المتر) أي أقل عشرة آلاف مرة من الشعرة. أنظر إلى حجم الغسيل المتسخ الذي تراكم خلال الأسبوع، فأقرر أن استمر في القراءة عن الأتربة التي تنبعث منها خمسة مليارات طن كل عام، فتظل الحبات الأكبر عالقة في الهواء لدقائق، أما الأصغر حجما تعبث بمصائرنا لأسابيع. وأفهم مدى التضحية التي يبذلها أحدهم عندما يعبر عن مدى عشقه للآخر بقوله أنه يحب حتى التراب الذي يمشي عليه، أي هو على استعداد أن يتحمل كائنات مزعجة للغاية من أجل عيون الحبيب، هنا أتوقف عند عبقرية اللغة والتعبيرات التي اعتدنا أن نرددها دون أن نعرف مصدرها، وأترحم على جدتي وكل من ساهم في جعل حياتنا أفضل ووهبنا لحظات من السعادة وعوامل وراثية تفاجئنا أحيانا وتربكنا لأننا كنا نسخر منها. أتذكر كلمتها حينما كانت تتحدث عن أحد الذين يتكالبون على الحياة و يريدون أن يغتنموا منها أكثر من حقهم، فتقول " إننا تراب، وإلى التراب نعود"، كأن التراب لنا، وللطيور السماء، مثلما يؤكد عنوان قصة لزكريا تامر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved