الرجل الذى عض الكلب

محمد عبدالمنعم الشاذلي
محمد عبدالمنعم الشاذلي

آخر تحديث: الثلاثاء 19 يناير 2021 - 6:25 م بتوقيت القاهرة

سادت فى بلادنا مدرسة إعلامية خبيثة شعارها «إذا عض كلب رجلا فهذا ليس خبرا، وإنما إذا عض رجل كلبا فهذا هو الخبر». لماذا نصف هذه المدرسة بالخبث؟ لو حللنا هذه المقولة لوجدنا أن الخبر فعلا هو الكلب الذى عض الرجل، ولو تتبعنا القصة لوجدنا مشكلة شيوع الكلاب الضالة لنبحث عن حل لعلاجها، إما بجمعها أو تعقيمها أو قتلها قتلا رحيما، ولبحثنا عن حل لشيوعها بسبب مربى الحيوانات الأليفة الذين يسأمون منها ويتخلون عنها فى الشوارع، ولجرمنا هذا السلوك ووضعنا ضوابط لتصاريح السماح باقتناء الحيوانات الأليفة، ثم يتطرق التحقيق الصحفى إلى توفير الأمصال التى تحمى الكلاب من الأمراض وتمنع انتقالها إلى البشر. إذا فأن تتبع خبر الكلب الذى عض الرجل يمكن أن يكون مفيدا، ولكن ماذا عن الرجل الذى عض الكلب؟ هو باحث عن الشهرة ومستعد أن يفعل أى شىء مهما كان غرابته وشذوذه ليحظى بالاهتمام الإعلامى ويسلط الضوء عليه، وبالتالى فإن تغطية فعله إعلاميا يشجعه على الاستمرار فى شذوذه ويشجع غيره على تقليده. بالبحث أسعدنى أن أجد أن هذه المدرسة لم تنشأ فى مصر لكن أصلها كان فى الولايات المتحدة على لسان John B. Bogart رئيس تحرير صحيفة New York Sun التى كانت تصدر فى مدينة نيويورك فى النصف الثانى من القرن 19 حتى توقف صدورها عام 1950. وهى صحيفة حققت توزيعا كبيرا خلال النصف الثانى من القرن 19 عن طريق قصص مثيرة تفتقد إلى المصداقية مثل نسب تصريحات إلى الفلكى البريطانى الشهير جون هرشل فى اكتشافه حضارة متقدمة على القمر.
يندرج هذا الأسلوب الإعلامى تحت ما يعرف بصحافة الإثارة sensationalism التى وجدت تعريفا بليغا لها وهو «تقديم اتساع التوزيع على الدقة والوقار». انتعشت صحافة الإثارة فى التسعينيات من القرن 19 بسبب التنافس الشرس بين صحيفة San Fransisco Examiner المملوكة لويليام راندولف هيرست وصحيفة New York World المملوكة لجوزيف بوليتزر. صيغت فى الولايات المتحدة كذلك مقولة كان لها تأثير على الإعلام وهى ‘if it bleeds، it leads’ أى إذا كان فيها دماء استحقت الصدارة، ومع دخول التصوير الفوتوغرافى مجال الصحافة بدأ التركيز على المشاهد الدموية للتأثير على المتابع.
ورغم مساوئ إعلام الإثارة فى الولايات المتحدة إلا أنه أدى دورا إيجابيا فى بعض الأحيان خاصة فى حرب فيتنام عندما نشرت الصحف صورة ضابط من فيتنام الجنوبية يطلق النار على أسير من الشمال مقيد اليدين، وصورة الطفلة العارية التى تجرى وقد اشتعل جسمها بنيران قنابل النابالم.
***
أما إذا انتقلنا إلى مصر لنرى ماذا فعل بنا الرجل الذى عض الكلب لرأينا مشهدا مثيرا للقلق، فقد انحصر دور وتأثير الإعلام الرسمى الذى حافظ رغم تراجعه على قدر معقول من المصداقية والوقار، بينما انتشر الإعلام الخاص والعربى بإمكانات مادية تفوق كثيرا الإعلام الرسمى. وزاد من استفحال الأمر وسائل التواصل الاجتماعى التى جعلت من كل من يحمل تليفونا محمولا صحفيا يمتلك صحيفة ومذيعا يمتلك محطة تلفزيونية دون مسئولية أو مساءلة. ومما زاد من الأمر ــ ضِغْثٌ على إِبَّالَة ــ انطلاقُ شعار آخر خبيث وهو «الإعلام فى خدمة الإعلان» وهو يضع الإعلام تحت سيطرة المصالح التجارية التى تخدم البرامج وتمولها الإعلانات.
هكذا صار الإعلام يلهث وراء كل رجل عض كلبا وأصبح الشذوذ جاذبا للشهرة والأضواء، واكتشف الكثيرون أن التميز عن طريق الشذوذ أسهل كثيرا من التميز عن طريق المثابرة والإجادة والاتقان.
ولعل من أكثر الدلائل على قوة الإعلام وتأثيره على المجتمع هو ما نراه من صعود الشذوذ إلى السطح فى مجالات عديدة فى الفن، حيث صار جواز المرور إلى الشهرة للأغنية كلماتها الشاذة الغريبة، فصار «الريس بيرة» من أشهر كاتبى الأغنية وارثا مكانة أحمد شوقى ورياض السنباطى وبيرم التونسى، وصار شذوذ الاسم أيضا مسوغا للشهرة. أما عن أزياء الفنانين فحدث ولا حرج، فنانات يتبارين فى العرى فى المهرجانات ليقدمن أجسادهن بدلا من فنهن ورجال يرتدون ملابس ممسوخة، وفى الرياضة بدلا من تقديم القدوة والأسوة للشباب تلهث القنوات وراء من يتبادلون السباب ويتناولون الذمم والأعراض، حتى الدين قدمت المنابر الإعلامية شيخا مغمورا لا يعرفه أحد ليفتى برضاعة الكبير، فصار فى يوم وليلة ذا شهرة وبريق.
***
ولعل من أسوأ الأعراض أننا سعرنا الشذوذ وجعلنا له ثمنا عندما يستضيف برنامج تلفزيونى فى شهر رمضان عددا من المشاهير ليدبر لهم مقالب تصيبهم بالذعر وتخرجهم عن شعورهم، والغريب أنهم أشخاص لا تنقصهم شهرة ولا ينقصهم مال، لكنهم يقبلون ذلك لأنهم يتقاضون مبالغ لا يجرؤ على طلب عشرها علماء أجلاء وأساتذة أفاضل، وعندما يعترض أحد يكون الرد «الجمهور عايز كدة» وأن للإعلام دورا ترفيهيا وهو أمر لا ينكره أحد بشرط ألا يطغى الترفيه على الجدية. ومن أقوال العرب المأثورة «اقتصد فى مزاحك، فالإفراط فيه يذهب بالبهاء ويجرئ عليك السفهاء».
لقد طرح الإعلامى الأمريكى العظيم Ed Murrow تساؤله عن وظيفة الإعلام، هل هى الترفيه والتسلية وعزل الجمهور عن الحقيقة، أم هى التنوير والتعليم والإلهام؟
To entertain، amuse and isolate or to illuminate، teach and inspire.
***
الإعلام الصحى مثله مثل الغذاء الصحى يجب أن يحتوى على العناصر الأساسية بشكل متوازن، وغياب عنصر أو زيادة عنصر يؤدى إلى ارتفاع الضغط وأمراض القلب، وغياب البروتين يؤدى إلى الضعف والهزال، كما أن زيادة جرعة الفكاهة والهزل فى الإعلام يؤدى إلى البلاهة والسفه وغياب الإعلام العلمى يغيبنا عن تطور الحياة.
دعونا ننبذ الرجل الذى عض الكلب ونتركه فى ركنه المعتم المعزول ولا نلقى عليه الضوء ولا نحقق طموحه فى الشهرة، ودعونا نسقط الضوء على المشكلة الحقيقية، مشكلة الكلاب الضالة التى تنهش أبداننا وتنشر السعار فى مجالات الحياة المختلفة؛ الفن والاقتصاد والرياضة والسياسة والدين حتى نطهر العالم منها ونبنى المجتمع الصحيح السليم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved