«الإمساك بالقمر».. زمن الأحلام والكوابيس!

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: السبت 19 فبراير 2022 - 10:30 م بتوقيت القاهرة

مولعٌ أنا بقراءة ما كتبه شهود مرحلة ما بعد هزيمة 67، وفترة الانتقال من عصر عبدالناصر إلى أيام السادات، وهى فترة تحولات كبرى ما زالت مؤثرة على أيامنا الراهنة، وهى سنواتٌ درامية بامتياز، فمن فترة الحلم، والمهمة المقدسة، عرف أبناء الجيل كارثة الهزيمة، ثم انتقلوا من الحرب إلى السلام، ومن الاقتصاد الموجه المنحاز للغلابة، إلى عصر الانفتاح، ومن الاحتفال بذكرى لينين، إلى استقبال نيكسون فى شوارع القاهرة.

يمكن القول إنها فترة الأحلام والكوابيس معا، وما زلتُ مندهشا من قدرة هذا الجيل على تحويل معاناته إلى فن وكتابة، ومن قدرته على أن يجمع بين الصوت العالى فى التعبير عن أيديولوجيا سياسية، وبين الصوت المستتر فى الكتابة والفن.

وهذا الكتاب الصادر عن دار الشروق بعنوان «الإمساك بالقمر.. فصول من سيرة زمننا» للروائى والقاص محمود الوردانى يعبر ببلاغة عن كل ذلك، ففيه سيرة الذات والحلم والواقع والكابوس معا، وفيه قراءة لأصداء هذه التحولات الكبرى على جيل بأكمله، فيه بورتريهات عن أسماء كبيرة فى عالم الكتابة، وفيه توصيف مدهش لعصر يحتفى بالأيديولوجيا، ويدافع عنها، وتصل فيه العلاقة بين مثقفى اليسار تحديدا، وبين المؤسسات الرسمية إلى ذروة الصدام والصراع.

تحضر فى الكتاب كارثة 67، ويحضر اعتصام طلاب الجامعة فى عام الضباب، وكذلك انتصار أكتوبر 73، ومظاهرات يناير 77، مثلما تحضر تفاصيل الحياة اليومية، وعلاقات الأصدقاء، ومغامراتهم ولحظات جنونهم ونزقهم، وبيوتهم وندواتهم وتنظيماتهم السرية، والأهم هو حضور فكرة «الحلم» وتغيير العالم والوطن، ومنها جاء اسم الكتاب «الإمساك بالقمر»، فقد شعر محمود الوردانى بأنه يمسك بالقمر أثناء الاعتصام فى قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة فى يناير من العام 1972.

محمود الوردانى أراد أن يكتب عن زمن العظيم محمد كامل القليوبى بعد رحيله، ولكنه وجد نفسه يكتب عن الجيل كله، وليس عن القليوبى فقط، ويكتب عن الحلم بتحقيق المستحيل، واكتشف بالضرورة أنه يكتب عن نفسه، وعن التنظيم الشيوعى السرى الذى انضم إليه، وكان اجتماعة الأول فى بيت القليوبى فى شبرا، رأى عن حق أن الثقافة والسياسة سبيكة واحدة، وأن تناقضات السياسة تنعكس على الفن والأدب، وأن الاستقطاب بين اليمين واليسار قد حدد معالم المعركة، ولذلك جاءت شهادة الوردانى شديدة الثراء والتنوع، وانتقالاتها بين الخاص والعام سلسة وذكية، وبلا حواجز أو موانع.

عندما وقعت هزيمة 67 كان الوردانى فى السابعة عشرة، ووجود شقيق مثقف له هو عبدالعظيم الوردانى، الذى كان يعمل فى مجلة «الإذاعة والتليفزيون»، جعل بيت الأسرة فى العمرانية مزارا لكثيرين من أهل الكتابة وعشاقها، وانضمام محمود إلى تنظيم سرى جعله فى قلب السياسة والأيديولوجيا، وتواصله، وهو الطالب فى معهد الخدمة الاجتماعية، مع طلاب جامعة القاهرة، جعله شاهدا على اعتصام طلابها الشهير فى العام 1972، احتجاجا على تأجيل اتخاذ قرار الحرب، وكتابته للقصة القصيرة، واهتمامه بالقراءة والثقافة، كل ذلك جعله فى قلب أوساط الفن والأدب، وشاهدا على جيل التمرد وثورة الماستر، وعشاق الأماكن والصعلكة، ورواد ريش وإيزافيتش، وجمهور جمعية الفيلم ونوادى السينما والمراكز الثقافية الأجنبية، وكلها أماكن كانت فى عصورها الذهبية الكبرى.

وما بين 1967، وعام 1982 حيث يتوقف الكتاب، عاصر محمود الوردانى أحداثا وشخصيات كثيرة، وسجن مرتين: مرة بعد القبض على الطلاب المعتصمين فى جامعة القاهرة فى العام 1972، والمرة الثانية فى العام 1980، وامتزج لديه فعل الحياة، وصخب السياسة، بعالمى القراءة والكتابة.

هذا جيل عاش الحياة وامتلأ بها، وكتب بهذا الامتلاء، وبشكل طبيعى للغاية، تأسرك فى الكتاب مثلا علاقات الجيل ببعضهم، حياتهم المنطلقة التلقائية، بيوتهم المفتوحة لبعضهم البعض، ووجود من اكتشف وشجَع وقدَم كتاباتهم الأولى، مثل عبدالفتاح الجمل، وإبراهيم منصور، وتجارب مجلات الماستر المهمة، وتجربة جاليرى 68، والصفحة الأدبية فى «المساء»، التى قدَمت أسماء جيل بأكمله.

من أجمل ما فى الكتاب أنه يعتمد القيمة الأدبية معيارا بصرف النظر عن الشهرة والصيت، هناك بورتريهات شيقة وحافلة بالتفاصيل عن شخصيات شهيرة مثل يوسف إدريس، ويحيى الطاهر عبدالله، وخيرى شلبى، وغالب هلسا وإبراهيم أصلان، ونجيب شهاب الدين، والفنان العظيم جودة خليفة، وهناك أيضا شخصيات مهمة، ولكنها لم تحقق نفس الشهرة، مثل الشاعر عزت عامر، ومحمد الفيل، والشاعر محمد سيف، وكم من أسماء فى حياتنا الثقافية تحتاج إلى رد اعتبار، وإعادة اكتشاف، سواء من جيل الوردانى، أو من الأجيال اللاحقة.

يبدو الكتاب مثل لوحة ملونة عامرة بالأحداث والمواقف، تظهر فى اللوحة طوابير الطلاب الخارجين من الجامعة وهم يصفرون بنشيد «بلادى.. بلادى»، ومظاهرة يوسف إدريس فى وسط البلد احتجاجا على اغتيال غسان كنفانى، ورحلات الوردانى وخيرى شلبى لاكتشاف القاهرة، وحوارات ومقالب يحيى الطاهر عبدالله، الذى كان يفخر بكتابته للقصة القصيرة.

كان زمنا صاخبا، وحافلا بمعاركه ومواهبه، كل ذلك تنقله السطور بتدفق واستفاضة، لا فرق فى ذلك بين صناع السياسة مثل السادات وكيسنجر، وصناع الحياة مثل الرفيقة نعمات (والدة محمود الورداني)، والأستاذة عائشة (زوجة الوردانى، وشريكة المعاناة والطريق الصعب).

ليت محمود الوردانى يكمل شهادته على فتراتٍ أخرى بعد العام 1982، كل زاوية للرؤية مهمة، وتستحق التأمل، وهذا الخاص ليس فى جوهره إلا العام، ولكن فى لقطات مقربة، وحميمة، وعميقة، وليته يضيف الصور إلى طبعات الكتاب القادمة، الصور أيضا تشهد وتعبر، وهى كذلك وثيقة تستعيد الزمن من جديد.

وليست فكرة «الإمساك بالقمر»، فى كل الأحوال، إلا حلم كل الأجيال الطامحة للتغيير، فى كل عصر وأوان، من جيل يناير 1972، إلى جيل يناير 2011.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved