كيف يكمل الميدان ثورته فى مواجهة أهل الثروة؟

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 19 مارس 2014 - 6:10 ص بتوقيت القاهرة

مرة أخرى، تعود إلى ساحة العمل السياسى حركات دينية أو شبه دينية، سلفية أو إخوانية، مصفحة بالشعار الإسلامى، لتواجه القوى والأحزاب ذات الشعارات القومية، أى التى تعلى راية العروبة أساسا والوطنية عموما.

عشرات التنظيمات السياسية والعسكرية، المسلحة غالبا، إخوانية وسلفية تخوض غمار حرب ضروس للاستيلاء على السلطة بأية وسيلة متاحة: شبك تحالفات سياسية عارضة مع قوى مهمشة أو ضعيفة أصلا ولكنها تفيد فى التمويه، نفاق العسكر، مداهنة أهل السلطة القائمة بالأمر وتطمينها إلى أنها ستكون سندا لها فى مواجهة «المنافقين» والخصوم العقائديين خصوصا من أهل اليسار المتهمين بنقص الوطنية والتبعية «للخارج الشيوعى» برغم انتهاء عصر الشيوعية واندثار الاتحاد السوفييتى ومعسكره الاشتراكى.

وبين تراجع التنظيمات ذات الشعار القومى والتقدمى و«اجتياح» المنظمات حاملة الشعار الإسلامى المشهد السياسى يعيش الوطن العربى بمختلف أقطاره فى المشرق والمغرب فوضى شاملة فكريا وسياسيا، تتناول الدين ومفاهيمه الموروثة ومحاولات التجديد فيها أو تحريفها بما يخدم الصراع فى هذه اللحظة.

لقد سقطت أو أسقطت الرايات التى رفعتها الأحزاب العقائدية ذات يوم، فوق سرايات الحكم، وتكشف الفقر فى صياغاتها الفكرية وطغيان الحماسة على الوقائع الصلبة فى تكوين المجتمعات، والتى تتطلب وعيا تاريخيا وقدرا عاليا من الثقافة السياسية.

بالمقابل، ازدهرت بعض المفاهيم بل المدارس الدينية، وأعيد الاعتبار إلى شعارات وتنظيمات دينية بل وطائفية، وسرت موجة من «التبشير» الجديد بين المسلمين، خاصة، بأنماط من التفكير من موروثات عصور التخلف الفكرى والجهالة السياسية.

بل إننا نشهد وقوعات قد تلتبس مع ما يحتويه التاريخ الذى كتبه غيرنا من فصول الصراع بين العباسيين والفاطميين والمماليك، فى ظل الحملات الصليبية التى تمكنت من اختراق مجتمعات هشة و«أنظمة حكم» مقتتلة على السلطة، خصوصا وقد سادت مذاهب وتشققات وبدع غيبت الهوية العربية للخلافة وانتقال مركز السلطة إلى جيوشها التى غلبت على تكويناتها ومواقعها القيادية، خاصة، هويات غير عربية.

•••

لقد عاد الماضى يحكم الحاضر، إلى حد كبير، ويكاد يتحكم بالمستقبل، فى ظل انقسام سياسى حاد وصراعات بين الأنظمة التى عادت تطلب ــ علنا ــ قدرا من الحماية والتسليم بوجودها بشروط قوى الخارج الأجنبى (وغير المسلم بطبيعة الحال).

وبعيدا عن الأنظمة التى طالما وصفت بالرجعية واتهمت فى وطنيتها، فإن بعض السلطات الجديدة التى استولدتها الانتفاضات الشعبية عبر فوضى «الميدان» وغياب التنظيم القائد أو تحالف التنظيمات التى لها حق القيادة على قاعدة برنامجها السياسى الواضح والمحدد، تعانى اضطرابا فكريا وسياسيا وتفتقر إلى دليل عمل، فضلا عن «المرجعية» صاحبة الحق فى القرار.

ولعل هذا الواقع الميدانى هو الذى شجع الأنظمة الموصوفة بالرجعية، والتى يغطى الذهب قصورها الفكرى وتشددها بتطبيقات تكفيرية متعنتة، على التقدم نحو السلطات المؤقتة التى استولدها «الميدان» عارضة عليها المساعدات المذهبة تمهيدا لاحتواء اندفاعتها الثورية وتدجين تطلعها إلى التغيير الجذرى الذى بشرت به «الميادين» وهو الذى دفع بالملايين إلى الشارع طلبا لإسقاط الطغيان والمباشرة ببناء نظام يلبى مطالب الشعب ويحقق طموحاته.

ما العمل والمطالب الشعبية ثقيلة وشاملة لمختلف وجوه الحياة، ومؤسسات الدولة شبه المفلسة منهارة، والاحتياجات ضاغطة، و«الدول»، وبالذات منها الولايات المتحدة الأمريكية، متربصة باحتمالات التغيير وتسعى إلى احتواء الطوفان الجماهيرى بالنصائح والإيحاءات الواضحة: لن تستطيعوا الإنجاز من دون مال، والمال عندى وعند الأنظمة التى قرارها عندى.. وبالتالى فلا بد من شىء من الاعتدال، ولا بد من التخلص من بعض شعارات الشباب الثائر والذى لا يتقن فن الحساب، ويفترض أن الثورة بقرة حلوب ما إن تقوم حتى يتوافر الطعام وتنهض مشاريع البناء فى الأنحاء جميعا وتشاد المصانع ويدخلها العمال أفواجا، وتقوم الجامعات من رقادها ويرتفع مستوى التعليم فلا يعود المواطن مضطرا إلى تأمين الدروس الخصوصية لأبنائه.

لقد اختلفت المعايير باختلاف الزمان: لا وجود للاتحاد السوفييتى والمعسكر الاشتراكى. وقد ذهب عصر النخوة والشهامة اعتمادا على روابط الإخوة بين العرب. الثورة بحاجة إلى الذهب لكن الذهب يقتل الثورة، فمن يبتدع معادلة الثورة من دون مد اليد إلى أصحاب الثروة.. بل المطلوب حماية الثورة من أصحاب الثروة، وهم ــ فى المدى المنظور ــ من يقدر على تأمينها، علما بأن هذا التأمين ــ إذا ما تم الفعل ــ فإنه سوف يقضى على الثورة؟

وما ينطبق على أصحاب الثروة ينطبق بالضرورة على المؤسسات الدولية: البنك الدولى وصندوق النقد الدولى.. فهذه ليست جمعيات خيرية، وليست من ذوى القربى الذين قد تحركهم الشهامة ورابطة الرحم وعاطفة الأخوة.

كيف يمكن بناء دولة بأموال أعداء الثورة؟

وكيف يمكن أن نطمئن أصحاب الثروة بأن الثورة لن تتعرض لهم ولأحوالهم بسوء؟! هل يمكن حصر الثورة ضمن حدود الكيان؟ ومن يستطيع بناء الأسوار التى تضمن لأصحاب الثروة أن الثورة لن تقترب من حدودهم وبالتالى من ثرواتهم وامتيازاتهم الهائلة؟ كيف يمكن أن يتحول الفقير، إلا بثورته، إلى ضمانة للغنى بثروته، والثورة ما قامت إلا لاستخلاص حقوق الفقراء على دولتهم التى كان أهل الطغيان وبالتعاون مع السماسرة فى الداخل ومعهم أهل الثروة فى الخارج قد نهبوها فوزعوها منحا وهبات وعطايا على بعض المحيطين من رعاياهم وعلى العديد من متمولى الأقطار النفطية لقاء عمولات مجزية؟!

لا بد من «وسيط نزيه» يوفر الضمانات المطلوبة للطرفين.. ولا يصلح لمثل هذه المهمة الإنقاذية إلا «الأمريكى» الذى يأخذ وهو يدعى أنه قد جاء ليعطى، والذى له مطالب سياسية لا يمكن تمويهها على «الميدان».

هى معضلة معقدة: تشترى المال بالثورة.. أو تبيع الثروة لأصحاب الثروة.. ولكن من هو «صاحب الثورة»؟ وهل الثورة عقار أو مساحات من الأرض عليها أكوام من البشر إذا دفعت مالا ملكت الأرض ومن عليها؟!

إن المال يُستخدم الآن كدواء يشفى من الثورات باستنزافها على مهل.. فصاحب الثروة يستطيع أن ينتظر طالما أن ليس له من منافس أو مضارب سيزايد عليه فى سعر الشراء.. أما أهل الثورة فيتعجلون الإنجاز، والإنجاز صعب ولسوف يحتاج زمنا، وليس ثمة من يبيع الزمن!

من قال إن الميدان قد أغلق؟!

لكن الحقيقة الجارحة أن «الميدان» يحتاج إلى الزمن من أجل الإنجاز الذى يتعجل الناس تحقيقه.. والزمن من ذهب، والذهب عند أعداء الميدان، بالمصلحة كما بالفكر.

ويبقى الأمل أن يكمل الميدان دورته، فلا يظل محصورا فى بلاد الفقراء، ويفرض على أهل الثروة أن يشتروا منه أمانهم بالذهب. لكن هذه حسبة معقدة، والتفاوض فيها صعب لأن الرهان على المقادير. وأهل الذهب يفترضون أنهم قادرون على شراء المقادير، أو أقله تعديل مساراتها وبالتالى ما كان يحلم به أهل الميدان، والذين ما زالوا حاضرين لحماية هذا الحلم.

والكفاح دوار..

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved