شهادات الثقة والدعم تستوجب أمرين

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 19 مارس 2015 - 9:40 ص بتوقيت القاهرة

توزيع شهادات الثقة والدّعم، فى المجالين الاقتصادى والسياسى، والتى تصدرها الدول تجاه بعضها البعض، أو تصدرها تجمّعات المؤسسات المالية الدولية والخاصة تجاه هذه الدولة ونظام الحكم فيها أو تلك، أصبحت ظاهرة موسمية فى طول وعرض بلاد العرب.

لكن الشهادة تحتاج إلى إثبات مصداقيّتها وموضوعيتها وفائدتها من خلال الأسس والمعايير التى اعتمد عليها مانحو الشهادة من جهة ومن خلال الواقع الذى سيحكم استعمال تلك الشهادة.

من هنا فإن صدور شهادة ثقة ودعم لانطلاقة استثمارية إقليمية ودولية كبيرة وشديدة التنوع تستدعى الإجابة على سؤالين: أولهما يتعلق بأسس وطبيعة النظام الاقتصادى الذى سيتعامل مع تلك الاستثمارات، وثانيهما يتعلق بأسس النظام السياسى الذى سيضبط ويراقب ويقيّم نتيجة تلك الاستثمارات.

بالنسبة للجانب الاقتصادى لن يكفى القول بأن الاستثمارات ستتعامل مع نظام رأسمالى وكفى. فهناك أنظمة رأسمالية شتى وليس نظاما واحدا.

فإذا كانت الاستثمارات ستتعامل مع نظام رأسمالى ملتزم التزاما تاما شبه دينى بترك أمور الاقتصاد ومسيرته ونتائجه لقوانين السوق الحرة الذى لا يخضع إلا لمبدأ العرض والطلب من جهة والتنافس المنفلت من كل عقال من جهة ثانية، فإن حصيلة تلك الاستثمارات ستنتهى فى مجملها بزيادة غنى الأغنياء وبزيادة فقر الفقراء.

ذلك أن مثل ذلك النظام الرأسمالى العولمى المتوحّش الفاقد الضمير قد أثبت خلال الثلاثين سنة الماضية من ممارسته، دون ضبطه من قبل سلطات الدولة التى أضعفت وهمّشت، ودون التزامه تجاه المحافظة على دولة الرفاهية الاجتماعية التى كانت حلا وسطا بين الرأسمالية والاشتراكية عند نهاية الحرب العالمية الثانية، اثبت أنه كان طريقا لسلب القليل الذى فى يد الطبقات الفقيرة والمتوسطة ليضاف إلى الكثير الذى فى يد مجموعات صغيرة من البشر المحظوظين أو الفاسدين النّاهبين. بل، وبالرُّغم من ادعاءات معتنقيه ومدارسه، فإنه نظام يبطئ عجلة الاقتصاد ويزيد القلق فى أسواقه ويقود من أزمة إلى أزمة أكبر وأفدح.

***

وهذا يقودنا إلى سؤال آخر مشروع: من هم الاقتصاديون الذين ستناط بهم مسؤولية الإشراف على مسيرة ووجهة تلك الاستثمارات الهائلة؟ فإذا كانوا من الذين يؤمنون بوهم «علمية» الاقتصاد واقترابه من صرامة العلوم الطبيعية، وإذا كانوا من الذين يحملون الأكذوبة القائلة بأن الأغنياء يجب أن يشجّعوا ليزدادوا غنى حتى يستثمروا أكثر فى عجلة الاقتصاد ومن ثم تتسرّب أوتوماتيكيُاَ أجزاء من ثرواتهم الهائلة إلى أيادى الفقراء، وإذا كانوا من الذين لا يؤمنون بضرورة دولة الرعاية الاجتماعية والمؤسسات الخاصة ذات الضمير والقيم وذلك من أجل توزيع أفضل للثروة ومن أجل حماية الفقراء والمهمّشين، وإذا كانوا من الذين يقلّلون من أهميّة الاقتصاد الصّناعى واليدوى الإنتاجى فى توليد الثروة ويعلون إلى حدّ الهلوسة والقداسة لاقتصاد إنتاج ونشر المعرفة والانغماس المريض فى موضة تنويع وتبديل وتغيير وسائل التواصل الإلكترونى إلى حدود الهذيان، وإذا كانوا من الذين لا يرون فى إسعاد الإنسان إلا الاستجابة المتعاظمة لرغباته الاستهلاكية النّهمة المليئة بالعلل والتى تخلقها ماكنة إعلانية وإعلامية هائلة، وإذا كانوا من الذين لا يرون فى الفكر الاشتراكى إلا نجاسة ورجسا من الشيطان لا يمكن الاستفادة من أي جزء منه.. إذا كان الاقتصاديون الذين سيشرفون على سيرورة تلك الاستثمارات من هذا النوع فإن بلايينها ستذهب هباء، بل وستزداد ديون الدولة التى سيتحمل فى النهاية وزر دفعها الفقراء ومتوسَّطو الحال.

وإذا كانت الدول المستقبلة لتلك الاستثمارات تعتقد بأن بناء مدن جديدة بالغة الحداثة والجدة فى مظاهرها وحركتها اليومية، ومليئة بالأبراج وناطحات السحاب ومجمعات التسوُق والتسلية، بأن بناء كذا مدن سيقلل من حمل أوزار المياه الملوثة وانتشار الأمراض والأوبئة ورداءة التعليم وتخلُّف حياة الأرياف وموت الأطفال ولعنات الفقر وقلة الفرص وتزايد البطالة وانتشار ثقافات التسطيح والبهرجة واللغو، فإنُهم باعتقادهم هذا يرتكبون أخطاءَ فاحشة ستظهرها فترة ما بعد الاستثمار.

سيكتشفون أن مدن اليسر المتوهُم هى بدورها مدن الأوهام، إذ إن وجودها وهى محاطة بمدن الأكواخ المتهالكة والشوارع المكتظة بأطفال الفقر والجهل وبالعمال والبائعين المنهكين الذين لا يزيد دخلهم اليومى على دولار أو دولارين سيقلبها إلى مدن الوهم الشهيرة (Virtual Cities) التى لا ارتباط بينها وبين الواقع المرير.

***

أما بالنسبة للجانب السياسى فإنه منذ تفجُر ثورات وحراكات الربيع العربى قد أصبح حديث الناس. فالنظام السياسى غير الديمقراطى، غير الخاضع لمراقبة ومساءلة المجتمع، غير القادر على بناء مجتمع مستقر مسالم دون استعمال كثيف ظالم لقبضة أمنية غير منضبطة بمعايير القانون والعدالة وحقوق العباد الإنسانية، غير القادر على ضبط وتنظيم النظام الاقتصادى ليكون نظام توزيع عادلا للثروة وسدُ لحاجات المواطنين المعيشية الأساسية فى المأكل والملبس والمسكن والعمل والخدمات الصحية والتعليمية اللائقة، فالنظام الذى لا يلتزم بتلك المسؤوليات ولا يمارس إعطاء الأولويات المكانة الأعلى.. هذا النظام لا يمكن أن يؤتمن على جعل بلايين الاستثمارات مناسبة لبناء اقتصاد عادل إنسانى تنموي بدلا من السماح لأن تكون تلك البلايين فرصة جديدة للسرقة والنهُب وبناء اقتصاد عليل فاجر.

قد توزع تلك الشهادات ولكنها ستكون شهادات مزورة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved