الإنسان والحجر.. السيسى وفقه البناء

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 19 مارس 2021 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

لا شك – عزيزى القارئ – أنك تتفق معى على أن الله خلق الكون؛ السماء والأرض والبحار والأنهار والجبال والحيوان... إلخ أولًا وفى النهاية خلق الإنسان، ذلك الكائن العاقل، ليتسلط على كل هذه الخليقة، فتُرى ماذا فعل الإنسان؟! قام الإنسان بترويض بعض الوحوش واستأنسها لخدمته، وقام أيضًا بترويض الطبيعة فشيد السدود على الأنهار وقام بتوليد الكهرباء، ثم نظر الإنسان إلى الجبل واستأنسه واستخدمه فى البناء، ومنذ القديم ظهر شغف الإنسان بالتشييد والتحديث طبقًا لموقعه (المكان) وتفاعله مع الزمان، وهكذا ظهرت الحضارات القديمة الفرعونية والكلدانية واليونانية، وعبرت الحضارة الفرعونية عن ذاتها بالبناء والتشييد، والحضارة اليونانية بالأساطير والشعر، الإلياذة والأوديسا، كما قامت الحضارة الغربية الرومانية اليونانية على الفن والرسم والتماثيل العظيمة ڤينوس وأفروديت، وظهر فى القرون الوسطى الرسامون والمثالون العظيمون مايكل أنجلو وليوناردو دافنشى، وحديثا ظهر بيكاسو وسلفادور دالى... إلخ.

أما فى مصر فقد أطلق المؤرخون على أجداد المصريين لقب «البناءون» (الأهرام، والمعابد، والمقابر)، وفى كل هذا نلاحظ علاقة الإنسان مع الأرض والنهر والبحر والوحوش بل والجماد وكأن هناك حوارًا قائمًا ودائمًا بينه وبينهم. والسؤال الأول الذى أريد أن أركز عليه فى هذا المقال، تُرى ما الذى يهبه الإنسان للجماد سواء كان هذا الجماد حجرًا أم حديدًا أم فضًة أم ذهبًا؟ والسؤال الثانى: ما الذى يضيفه الجماد أو يهبه للإنسان؟! سأحاول هنا أن أقترح عليك – عزيزى القارئ – إجابتى محاولًا أن تفكر معى فى هذا الأمر أو التوجه... أرى أن الإنسان يهب الجماد الحجرى أو الحديدى الصامت «المعنى»، والمعنى الذى يعطيه الإنسان للحجر والحديد (الخام أو الغشيم بلغة الفنان أو المهندس) هو إعادة تشكيله بطريقة مختلفة فيحوله إلى (بناء أو تمثال). فالإنسان يسيطر على الجماد ويشكله ويعطيه جمالًا ما من نوعية ما، وأخيرًا يعطيه مفهومًا ما، وبعد ترويضه يتضح ما الذى كان فى ذهن المروض، هل هو بيت يصلح لسكنى الإنسان؟ أو آخر مختلف للحيوان؟ أو ثالث للرب للعبادة، أو رابع للمسرح... إلخ فلكل بناء يتم ترويضه معنى كان فى خيال المروض قبل أن يمد أصابعه إليه، ثم استحال إلى كيانٍ حقيقى كما تخيله، فإذا نظر إليه أى عابر سبيل يقول: هذا مسجد أو هذه كنيسة أو ملعب كرة، أو متحف، أو مدرسة أو مسرح... إلخ، لقد أحال الإنسان الجماد إلى معنى يمكن تعريفه، لكن أيضًا يعطى الإنسان الجماد بجانب المعنى حياة، فعندما يستخدم الإنسان المكان الجامد يهبه حياة وحيوية، وهذا هو الفارق بين المقابر من ناحية والمنازل من ناحية أخرى وبيوت العبادة (كنيسة – مسجد – معبد) من ناحية ثالثة، فالبيت مكان لقاء الأسرة الإنسانية الحية، وبدون الأسرة فى داخله لتستخدمه يكون مكانا له معنى لكنه بلا حياة، وهكذا المسجد والكنيسة تدب فيهما الحياة بالعبادة والأنشطة المختلفة، وكل مكان من هذه الأماكن يستخدمها الإنسان يعطيها نوعًا من الحيوية، لكن ليس فقط وجود الإنسان هو الذى يعطى شخصية وحياة للمكان لكن تصميمه أيضًا فتصميم المسجد يختلف عن الكنيسة عن المبنى الإدارى... إلخ والتصميم يبوح بمعنى وحياة وفكر بل وفلسفة فلا يكتمل المعنى إلا بالحياة ولا حياة بدون الاستخدام الإنسانى.

أما الأمر الثالث الذى يعطيه الإنسان للجماد فهو الروح: والسؤال من أين تأتى الروح لهذا الجماد؟

الروح تدب فى هذا الجماد عندما نتذكر الذين قاموا ببنائه واستخدموه لأول مرة، ونرى فى داخله الفنون التى كانت فى زمنهم، ففى منازلنا تلك الصور الأبيض والأسود للأجداد وأجداد الأجداد، والمنابر الأثرية فى أماكن العبادة مثل منبر الأزهر الشريف الذى خطب عليه القمص سرجيوس أثناء ثورة ١٩١٩م. ومغارة الطاحونة فى مصر القديمة الأثرية التى كان يعيش فيها البابا كيرلس قبل اختياره ليكون بابا للأقباط. وبيت المقدس وأورشليم حيث سار المسيح بقدمه، ونهر الأردن والمعمودية فيه، وكتجربة شخصية لم يتم تعميدى لأنى الابن الوحيد مع خمس بنات حتى وصل عمرى 12 سنة، وذلك لأن جدتى نذرت قبل ولادتى لو جئت ذكرًا، ألا أُعمَد إلا فى نهر الأردن الذى اعتمد فيه السيد المسيح من يوحنا (يحيى) المعمدان، لكن أغلقت الطرق بسبب السياسة والحرب، أخيرًا أقنعوا جدتى أن أُعمد بطريقة طبيعية فى بلدنا بالصعيد، والحمد لله أن مذهبنا الإنجيلى لا يشترط فى المعمودية التغطيس فقط، لكن بجانب التغطيس السكب على الرأس أو الرش، وأقنعها والدى أنه فى أى وقت يتم فتح الطريق للقدس أذهب وأعتمد هناك. وكذلك تصميم الكعبة المشرفة ففى موسم الحجيج تدب الروح فى الأماكن المقدسة حيث الملايين من المسلمين من كل الأجناس والألوان يأتون من كل أنحاء العالم يستمتعون بمناسك الحج.

وهكذا نرى أن الإنسان يهب الحجر والجماد المعنى والحياة بل والروح.

***

هنا نأتى للسؤال الثانى والعكسى، ما الذى يهبه الجماد (البناء) للإنسان؟! أرى أن البناء يجعل الإنسان المحدود يتجاوز الزمان والمكان، فالبناء يشهد لمن بناه عبر الأزمان فما زالت الأهرامات تشهد لمن أقامها.

وبرج القاهرة مثلًا يشهد لعبدالناصر، لأن أمريكا أرادت رشوته بملايين الدولارات كما تفعل المخابرات المركزية دائمًا مع رؤساء وملوك العالم الثالث ليكونوا عملاء لها، فأخذ عبدالناصر الرشوة وبنى بها البرج ليشهد لطهارة يديه وصمود مصر على مدى الأجيال.

نحن نتنسم روح الفراعنة فى وادى الملوك بالأقصر وفى معابدهم، وفى كل مكان أثرى حيث يتجاوز الإنسان والزمان والمكان.

الأمر الثانى الذى يعطيه الجماد للإنسان هو متعة الإنجاز (تحقيق الذات)، يقول علم النفس إن إشباع احتياجات جماعة إنسانية ما فى أن تستمر وتقوى، عليها تحقيق ثلاثة أمور: الحب والقوة والإنجاز؛ فأى جماعة تفتقد الحب تسقط وينساها الزمان، وكذلك إذا فقدت القوة، وأخيرًا إذا لم تنجز وتحقق الأهداف التى قامت لتحقيقها، فمن أهم عوامل استمرار الجماعة معًا وعلامة نجاحها هو الإنجاز والبناء المستمر وهو من أهم أسرار البقاء.

من هنا أستطيع أن أفهم ما الذى يفعله السيسى بمصر، إنه يريد لشعب مصر أن يتجاوز الزمان والمكان بتوحدهم مع تاريخهم الفرعونى (المتحف الكبير)، وترميم الآثار القبطية والإسلامية، وكذلك يريد أن يوحد شعبه فى بنائه لمصر ومشروعاتها الحالية، وأخيرًا يجعلهم يستمتعون بمتعة الإنجاز فيتوحدون ويعملون معًا لأجل رفعة بلادهم.

عندما تزور العاصمة الجديدة – عزيزى القارئ – تأمل فى بناء الكنيسة والمسجد معًا هناك، وتأمل البناء والشوارع... والمحلات والمنازل... إلخ. والملاحظة التى التقطتها من زيارتى للعاصمة الجديدة الإتقان فى كل عمل يقوم ويُشيَّد، فالإتقان من أهم عوامل النجاح للفرد والجماعة. أتذكر بهذا الشأن قصة تمثال «موسى النبى وهو يحمل فى يده لوحى الشريعة» والذى نحته مايكل أنجلو بإتقان غير مسبوق، لقد وقفت أمامه مذهولًا من درجة الإتقان والحيوية، تكاد ترى عينيه تتحركان، وتلمس عروق يديه بأصابعك، ولاحظت أن هناك كسرًا فى ركبته، وحكى لنا المرشد السياحى كيف أن مايكل أنجلو بعد أن أنهى تمثال موسى وبيده المطرقة رجع للخلف وتأمله وأحس بأنه أمام شخص حى ينظر إليه، فجرى نحوه وضرب التمثال فى ركبته بالمطرقة وهو يصرخ فى وجهه بانفعال: تكلَّم– انطق– تكلَّم– تكلَّم. فهرعوا إليه وأخذوا المطرقة من يده. وفى الكتيب النفيس والجميل الذى يبيعونه للسياح أن واحدًا كان معاصرًا لمايكل أنجلو سأله كيف تختار الحجر الذى تقرر استخدامه لتنحت منه الشخصية التى قررت نحتها؟! أجاب أنه يصعد الجبل يومًا بعد يوم يتأمل الصخور ويتحدث معها واحدة بعد الأخرى، وفجأة يرى صورة الشخص الذى يريد نحته يتحدث إليه من صخرة بعينها صارخًا حررنى.. حررنى، وهنا ما علىَّ سوى تحريره.

هذا هو الإتقان الذى نتطلع إليه فى العاصمة الجديدة وفى كل مكان؛ لكن بدون المطرقة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved