متى يتجاوز الحراك السياسى فى مصر وضع محلك سر؟

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الإثنين 19 أبريل 2010 - 9:42 ص بتوقيت القاهرة


إحدى عجائب السياسة المصرية فى الوقت الحاضر هى من ناحية اتساع نطاق ما يسمى بالحراك السياسى، احتجاجات متصاعدة على تردى أوضاع المعيشة لقطاعات واسعة من المواطنين، عمت معظم طبقات المجتمع، من فلاحين وعمال ومهنيين من الطبقة الوسطى، وأصبح تكرارها ــ ليس فى القاهرة وحدها وإنما فى محافظات مصر العديدة شمالا وجنوبا ــ أمرا لا يثير الدهشة.

كما تعددت المظاهرات التى يقوم بها المطالبون بالإصلاح السياسى مابين حركة 6 أبريل وحركة كفاية إلى أنصار الجمعية المصرية للتغيير،

وعقد قادة أحزاب المعارضة الرئيسية الأربع مؤتمرا طرحوا فيه تقريبا نفس المطالب، ومع ذلك كله لا يبدو فى الوقت الحاضر أن كل هذا الحراك السياسى قد يفضى إلى أى تغيير ذى قيمة لا فى الأوضاع الاقتصادية، ولا فى الأوضاع السياسية. صحيح قد تكون هناك زيادة فى نسبة العلاوة الاجتماعية التى تأتى مع الميزانية الجديدة كل عام، ولكن ذلك هو أقل بكثير مما يتطلع إليه هؤلاء الذين ينظمون الاعتصامات والمظاهرات أمام مجلس الشعب،

كما أن ما يتسرب إلى أجهزة الإعلام ومن الصحفيين المقربين من قيادات الحزب الوطنى لا يوحى بأن هناك أى تفكير فى الاستجابة لمطالب حركات المجتمع المدنى أو الأحزاب السياسية، وإنما يتركز البحث والنقاش داخل دوائر الحكم فى مصر حول شخصية مرشح الحزب فى الانتخابات الرئاسية القادمة..

وهل يعجل بهذه الانتخابات قطعا للشائعات وللطريق على المطالبين بالتغيير، فتجرى الانتخابات الرئاسية قبل موعدها العام القادم.. أم تجرى فى موعدها المحدد فى أكتوبر سنة 2011؟ وهكذا فكل ما سوف يتمخض عن هذه التحركات المطلبية هو البقاء فى نفس المكان..

وثبات نفس الأوضاع والسياسات التى أفرختها.. ورغم أنه لا يوجد ما يشير إلى عكس ذلك، فليس من المتوقع أن تتوقف حركات الاحتجاج هذه بنمطيها، بل الأرجح أنها سوف تتصاعد خلال الشهور القادمة.. لماذا سوف تتصاعد؟ ولماذا لا يبدو، لو استمرت بأساليبها الحالية، أن تأتى بالنتائج التى يتطلع إليها من يقودونها ومن يشاركون فيها؟ هذا ما يسعى هذا المقال إلى إثارة النقاش حوله..

لماذا ستستمر حركة الاحتجاجات الاقتصادية والسياسية؟
بطبيعة الحال تفسير أسباب استمرار الاحتجاجات الجماهيرية على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية سهل للغاية.. فليس من المنتظر أن تتحسن هذه الأوضاع على الرغم من دعوة الرئيس إلى زيادة نسبة العلاوة الاجتماعية السنوية، أو ما يتردد عن عزم الحكومة بحث رفع الحد الأدنى للأجور. فحتى لو تحقق ذلك فلن نغير هذه الزيادات المحدودة من قسوة الأوضاع المتردية الاقتصادية والاجتماعية التى يعانى منها المواطنون.. وليس السبب الوحيد لذلك هو قلة حيلة الحكومة بسبب محدودية الموارد وازدياد العجز فى الموازنة، وإنما السبب الرئيسى لذلك يرتبط بالفلسفة الاقتصادية التى تؤمن بها هذه الحكومة، وهى ترجمة لما يراه أنصار ما يسمى بالفكر الجديد فى لجنة السياسات..

فهذه القيادات الحكومية والحزبية تعتقد اعتقادا جازما حتى ولو قالت بعكس ذلك بأن النمو الاقتصادى وحده من شأنه أن يخفف من حدة الفقر وأن يقلل من البطالة وأن ينشر الرخاء فى ربوع مصر، وما يصدر عنها من تصريحات باستهداف قرى معينة أو بزيادة الدعم للطبقات الفقيرة لا يعنى تخليها عن هذا الاعتقاد، لأنه مشروط فى رأيها باستمرار النمو بنفس الطريقة التى جرى بها خلال السنوات التى سبقت الأزمة الاقتصادية، وبفرض إمكانية تخصيص جزء ضئيل من ثماره لمواجهة هذه الاحتياجات الاجتماعية،

ويغيب عنها أن نمط النمو غير المتكافئ فى آثاره الذى أنتجته هذه السياسات هو الذى يولد كل هذه الآثار الاجتماعية من زيادة الفقر واستمرار واتساع البطالة. والشق الثانى من أسباب استمرار الأوضاع الاقتصادية التى تولد الاحتقان هو ببساطة عدم الكفاءة التى يتسم بها أداء هذه الحكومة على الرغم من شهادات الدكتوراه التى يحملها معظم وزرائها..

ليس انخفاض معدل النمو الاقتصادى هو ما يكمن وراء تفاقم مشاكل التخلص من القمامة فى شوارع مدن مصر، أو تعقد مشكلة المرور أو تلوث الهواء الذى نستنشقه، أو صعوبة حصول الفلاحين على ماء الرى، وليس السبب فى ذلك هو زيادة السكان كما يدعونا للاعتقاد فى ذلك أحد الأقطاب الإعلامية للجنة السياسات، ناهيك عن تدهور مكانة مصر عربيا وأفريقيا. السبب فى ذلك ببساطة هو عدم كفاءة فريق الحكم وقلة حيلته الفكرية وضحالة خياله..ولذلك فسوف تتزايد الاحتجاجات الجماهيرية، وخصوصا وقد سقط حاجز الخوف من السلطة الذى كان يجعل المواطنين تكتم سخطها فى الصدور، وكذلك بعد أن أدركت أن الحكومة يمكن أن تستجيب لبعض هذه المطالب، خوفا أن تتحول الاحتجاجات السلمية إلى انتفاضة شعبية واسعة.

وعلى الرغم من أنه ليست هناك بوادر لإمكان استجابة الحكومة لمطالب الإصلاح السياسى، فسوف تستمر، بل والأرجح أن تتصاعد حركات المطالبة بالتغيير الدستورى، وأسباب ذلك مختلفة، فالقائمون على هذه الحركات يملكون اعتقادا جازما أنهم مجرد طليعة للزحف الشعبى الكبير الذى سيجبر النظام على الخضوع لإرادة جماهيرية عارمة. كل ما يقتضيه الأمر هو أن تكسر الطليعة حاجز الخوف، وأن تشير إلى الجماهير إلى طريق التغيير الذى يتعين اتباعه، وعندها سوف تأتى هذه الجماهير فيما يسميه أحد هذه القيادات فى مظاهرة مليونية، لابد وأن يؤدى هديرها إلى إشراق فجر الديمقراطية على ضفاف النيل..

أو أن استمرار المطالبة بالإصلاح عندما يوقع على توكيلاته آلاف المواطنين، ومنهم أسماء معروفة فى النخبة الثقافية سوف يجعل «العقلاء» بين من يحكمون مصر يؤثرون الحكمة والاستجابة لمطالب تبدو معقولة لأن مصر هى من البلاد القليلة فى العالم التى لا يتمتع شعبها بانتخابات نزيهة على أى مستوى سوى فى النوادى الرياضية، وهذا أمر أصبح مصدر فضيحة لمصر على الصعيد العالمى..أو يقيس قادة حركات المجتمع المدنى هذه قياسا خاطئا على ما جرى فى بلاد أخرى فى أمريكا اللاتينية، فى شرق أوروبا، وفى الاتحاد السوفييتى السابق عندما انهارت نظم سلطوية عتيدة أمام حركات احتجاج جماهيرية سلمية. ويفوتهم أن بنية حركات الاحتجاج هذه فى تلك البلاد تختلف كثيرا عن التجمعات الصغيرة لمن يطالبون بالإصلاح السياسى فى مصر.

والخلاصة إذن، هى أن ما أصبح يسمى بالحراك الاجتماعى والسياسى سوف يستمر فى مصر، ولكن دون أن يكون هناك حراك حقيقى لا على مستوى السياسات ولا على مستوى المؤسسات.

متى يتحول الحراك الاحتجاجى إلى تغيير حقيقى فى السياسات والمؤسسات؟
ومع ذلك فاحتمال أن يفضى هذا الحراك الاحتجاجى إلى تغيير حقيقى فى السياسات والمؤسسات ليس مستبعدا تماما إذا ما تعلم القائمون عليه من دروس التاريخ فى البلاد التى نتج فيها التغيير السياسى فى اتجاه الديمقراطية عن حركات شعبية..أول هذه الدروس أن عامة المواطنين لا يطلبون الديمقراطية غالبا كغاية فى ذاتها، ولكن لأنهم يعتقدون أن الديمقراطية هى الطريق إلى النهوض بأوضاع معيشتهم، وهى سبيلهم إلى حياة كريمة.

فهكذا أقام العمال البريطانيون حزب العمال، وهكذا تحولت الحركة العمالية فى أوروبا إلى أحزاب سياسية يمكن من خلال عملها السياسى أن يضمن العمال الاستجابة لمطالبهم الاقتصادية.. العجيب أن النشطاء السياسيين فى مصر الذين يناضلون من أجل الديمقراطية، وفى مقدمتهم قيادات الجمعية المصرية للتغيير لم يشرحوا للناس حتى الآن كيف سيؤدى تغيير المواد الثلاث سيئة السمعة فى الدستور إلى تحسن ملحوظ فى ظروف حياة المواطنين، حتى ولو فى المدى المتوسط أو البعيد. فهم لم يطرحوا على الرأى العام بعد برنامجا يتعدى المطالب السياسية المعروفة...

والأكثر عجبا أن حركات المجتمع المدنى حتى تلك التى يقودها ناشطون يعرفون الصلة بين الديمقراطية والوصول إلى حياة كريمة لم ينضموا بعد إلى الحركات المطالبة بالديمقراطية أو لم يظهر لهم وجود بارز فيها..فلا نجد مثلا قيادات مركز الخدمات النقابية والعمالية ولا مركز الأرض فى الصفوف الأولى للمطالبين بالتغيير السياسى. والدرس الثانى المهم هو أن التعويل على تلقائية الجماهير،

وأنها تنتظر اللحظة الحاسمة للانخراط فى مسيرة التحول التاريخى نحو الديمقراطية هو أقرب إلى الاستسلام لأحلام اليقظة. لم تكن الحركات الشعبية التى أسقطت النظم السلطوية فى أمريكا اللاتينية وتحديدا فى الأرجنتين والبرازيل وشيلى، أو فى شرق أوروبا أو فى دول الاتحاد السوفييتى السابق هى نتيجة تحرك تلقائى من جموع المواطنين، وإنما كانت نتيجة عمل دءوب فى نقابات العمال، ومنظمات حقوق الإنسان، وصفوف الكنيسة نشر الوعى بضرورة الديمقراطية لإسقاط أوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية جائرة.

وما ينقص الحركة الديمقراطية الصغيرة الناشئة فى مصر الآن، هو تلك الصلات الوثيقة التى تربط الطليعة المنادية بالإصلاح السياسى بالجماهير العريضة التى تئن من وطأة سياسات اقتصادية وإدارة حكومية أثبتت فشلها فى توفير أبسط مقتضيات الحياة الكريمة لأغلبية المواطنين.
وبطبيعة الحال فإن الطريق إلى ترجمة هذين الدرسين فى الواقع المصرى الراهن هو أمر صعب للغاية ــ إن لم يكن مستحيلا. تقف أمامه مقاومة سلطات الحكم لأى محاولة للربط بين القضية الاجتماعية وقضية الديمقراطية، وعدم تسامحها مع اتساع حركة المطالبة بالديمقراطية،

وكذلك وأدها فى المهد أى محاولة للتواصل بين المطالبين بالديمقراطية والمطالبين بلقمة العيش، حتى من سبيل إظهار التضامن من بعضهم للبعض الآخر. ولنا أن نتذكر فى هذا السياق كيف تعاملت سلطات الأمن مع شباب 6 أبريل وقت مظاهرات المحلة فى 2008، وكيف منعت فى نفس المناسبة مجرد دخول عدد من أساتذة الجامعة مدينة المحلة الكبرى لإبداء المساندة لعمالها المضربين.. كما أن القيود على التنظيم السياسى المستقل، أيا كان، هى ما لا يستعد النظام الحاكم فى مصر للتخلى عنها.

ولكن إذا كان المطالبون بالديمقراطية فى مصر يأخذون ما يطالبون به على محمل الجد، فلا ينبغى لهم أن يعتبروا هذه القيود بمثابة حواجز لا يمكن القفز عليها أو من ورائها، وإنما هى مجرد تحديات لا تصمد أمام من يتسلحون بالخيال وبالإرادة.










هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved