رسائل إيرانية

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 19 أبريل 2015 - 8:10 ص بتوقيت القاهرة

صدر كتاب «أكتب لكم من طهران» باللغة الفرنسية (Je vous écris de Téhéran) خلال المفاوضات الأخيرة حول الملف النووى الإيرانى مع مجموعة «5+1» فى لوزان، قبل أيام من التوصل إلى إتفاق إطارى بهذا الشأن. تغمرنا المؤلفة بالمشاعر والمعلومات، تحكى إيران من الداخل، بكل تنوعها وتناقضاتها. تشرح الصحفية دلفين مينوى التركيبة الإيرانية المعقدة، بين هوية فارسية ودينية وتطلع إلى الحداثة، من خلال بشر من لحم ودم وتفاصيل عاشتها وهى تجوب البلاد لأكثر من عشر سنوات قضتها فى مسقط رأس أجدادها لأبيها، فهى نصف إيرانية، نصف فرنسية، تنتمى عائلتها إلى «السادة» أو نسل النبى محمد عليه الصلاة والسلام، وقد ولدت وتعلمت فى باريس.

بعد وفاة جدها المباغتة أرادت سبر أغوار الماضى لكى تفهم الحاضر وتعيد اكتشاف ذاتها، وصلت إلى طهران عام 1997 لكى تنجز ريبورتاجا اذاعيا حول الشباب الإيرانى وإذا بها تقيم وتعمل لسنوات وسنوات حتى تجبر تقريبا على الرحيل، فى لحظة سياسية حرجة بعد الانتخابات الرئاسية عام 2009 التى أسفرت عن اندلاع موجة من الغضب، فور إعلان فوز أحمدى نجاد على خصمه حسين موسوى، فيما أطلق عليه البعض «الربيع الإيرانى». تنطلق بنا منذ بداية الكتاب فى أجواء الصراع بين الإصلاحيين والمحافظين، فقد وصلت إلى طهران مع وصول خاتمى إلى الحكم وأنصاره من الشباب فى حالة من الغبطة والتفاؤل بما هو آت، تحملنا إلى ثنايا هذا الصراع المستمر، من مدينة إلى أخرى ومن محفل إلى محفل، عبر حكايات أشخاص قابلتهم وعرفتهم عن قرب وبعضهم صاروا أصدقاء: نيلوفار ــ راعية الشباب، باغى ــ الصحفى الذى تحول إلى ناشط لحقوق الإنسان بعد تجربة السجن وإغلاق جريدته، محمود وزوجته من «الباسيج» أو قوات التعبئة الشعبية التابعة للحرس الثورى، سارة ــ المدونة والشاعرة التى درستها الفارسية، مهدى ــ الملا الشاب صاحب السترة الجلدية،.. نتابع تطورهم وتفاعلهم مع الأحداث التى تدور دوما على خلفية هذا الصراع، تلبس المؤلفة نظارة جدها القديمة التى وجدتها بالمصادفة فى منزل العائلة بطهران، حيث سكنت مع جدتها، لكى نرى معها إيران من منظور الجد.. وتتداخل مسارات حياتهما ــ الجد والحفيدة ــ بعد نحو نصف قرن من الزمان، فتتعرض الصحفية الشابة لمواقف شبيهة لما عرف الجد الإصلاحى ــ العلمانى، الذى عين فى فترة كسفير لبلاده فى اليونسكو كى يتم إبعاده، فقرر الحصول على دكتوراة فى الآداب، لكى يتخلص من ملل الوظيفة، وهو المغرم بالشعر خاصة غزل حافظ، «لسان الغيب» و«ترجمان الأسرار»، كما يلقبه الإيرانيون.

•••

دلفين مينوى تأخذ فألها من أبيات حافظ كعادة أبناء البلد الذين يفتحون ديوانه عشوائيا على أى صفحة لتحمل لهم البشارة.. من نتعرف إليهم، من خلال الكتاب، يوضحون بشكل أو بآخر أن «إيران تشبه كوب الزجاج المكسور الذى تم لصق أجزائه بعناية، فى أى لحظة من الممكن أن يتصدع»، وأن «الاصلاحيين أخطأوا حين ركزوا على مفاهيم مجردة مثل الحرية والديمقراطية، دون الإتيان بعمل اجتماعى يعضد وجودهم على الأرض، ما أدى إلى اتساع الهوة بين المثقفين الإصلاحيين وعامة الناس الذين فضلوا شعارات ووعود نجاد الرنانة». ومع ذلك تؤكد الكاتبة: «الجن قد خرج من القمقم، ولن يدخله بسهولة مجددا»، فالمجتمع لم يفقد شيئا من ديناميكيته، الناس تتفاعل وتتحايل كما يتراءى لها كى يعيشوا كما يريدون ووفقا لما يعتقدون، ويدفعون الثمن دون يأس، رغم لحظات الانكسار ووطأة البروباجندا التى تذكرنا أحيانا بما يحدث لمحبى التغيير فى مصر وغيرها من البقاع..

•••

تصحبنا الكاتبة إلى مدينة قم، المعقل الحقيقى للصراع بين الإصلاحيين والمتشددين، حيث قابلت أحمد ابن آية الله حسين على منتظرى، مرجع التقليد ورفيق درب الإمام الخومينى سابقا، ليوضح أن صلاح الأمور لن يكون إلا بفصل الدين عن السياسة، وينتقد مبدأ ولاية الفقيه. خطاب منتظرى الذى توفى سنة 2009، كما عبر عنه ابنه، ظل يرن فى الأذن حتى قابلت «مينوى» بعدها بسنوات حسين، حفيد الإمام الخومينى فى فيلا على ضفاف نهر دجلة بالعراق، بعد سقوط حكم صدام. كان حسين الخومينى ناقدا هو الآخر لمبدأ ولاية الفقيه والتداخل بين الدين والسياسة، لكنه أبدى اعجابه الشديد بالقوات الأمريكية ورحب بدخول دبابتها إلى إيران طالما ستحمل لشعبه الحرية!

الحرب العراقية ــ الايرانية تلقى بظلالها من وقت لآخر على النفسية الإيرانية، ما يفسر فى مكان ما مدى الحرص على امتلاك النووى، وهو المشروع الذى يرجع تاريخه إلى عصر الشاه وتحديدا منذ منتصف السبعينيات، ثم تم تفعيله مجددا سنة 1995، فى إطار خوف الجمهورية الإسلامية من التهديد الخارجى، واسترجاع استهداف صدام لهم بالسلاح الكيماوى دون رد فعل دولى على مستوى الحدث.

ننتقل مع الكاتبة من محطة بوشهر النووية إلى مدينة بندر عباس فى الجنوب لنتعرف على وجه آخر لإيران المتعدد الثقافات الذى يشكل الفرس 50% فقط من سكانه، حين ترسم لنا صورة بعض السكان من أصول أفريقية وهم يمارسون طقوس الزار فى الخفاء، رغم المركزية الشديدة التى تفرضها السلطات. وفى جولة أخرى، عادت الكاتبة برفقة زوجها ــ الصحفى المرموق أيضا ــ لزيارة قبر حافظ فى شيراز عام 2009، بعد أن أصبحت قادرة على قراءة ديوانه وفهم كل معانيه. توجهت بعدها إلى منزل صديق موسيقى فقد بصره وهو فى الرابعة عشرة من عمره، لذا سمح له بتدريب فتيات شيراز على العزف والغناء.. ارتفعت الأصوات بمزيج من الشجن والأمل، تغنت البنات بالموت والربيع، فى تعبير بليغ عن حالة إيران التى لا نعرفها نحن من الداخل كما وصفتها «مينوى»، بل نكتفى بشيطنتها فى إطار صراع سنى ــ شيعى مقيت، لا قاع له ولا فائدة. ربما ينبغى أن تترجم مثل هذه الأعمال إلى العربية لكى تساعد فى فك شفرة بلد قريب وبعيد فى آن، وأن يتم الاستفادة من وجود الكاتبة حاليا فى مصر لفتح باب نقاش، يبدأ فى السادسة مساء غد الاثنين بمكتبة «أم الدنيا» بوسط القاهرة، ويعد بالمزيد من اللقاءات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved