أردوغان على الحافة

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 19 أبريل 2017 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

القضية الحقيقية فى الاستفتاء التركى، بكل صخبه وانقساماته، ليست أى نظام أفضل من الآخر الرئاسى أم البرلمانى، بقدر ما هى أن التعديلات صممت على مقاس رجل واحد يلخص الدولة فى شخصه ويدمج كل مؤسساتها وفق مشيئته، دون أى اعتبار لأى قواعد ديمقراطية فى الفصل بين السلطات، أو أى عناية بضمانات الحريات العامة والتعددية السياسية.

بلا مواربة كان ذلك هو موضوع الاستفتاء، الذى توجد حيثيات حقيقية تنزع عنه نزاهته مثل تعديل القواعد والإجراءات أثناء «الشوط الثانى من المباراة» حيث احتسبت بطاقات اقتراع غير مختومة.
النزاهة مسألة شرعية.
وهذه غائبة بفداحة.
الاستقواء بالسلطة لا يؤسس لشرعية، فضلا عن أن فرض النتائج يناقض طبيعة المجتمع التركى المتنوع سياسيا وجهويا وعرقيا.
القفز فوق الحقائق نهايته مؤلمة ــ كما جرت العادة دائما، وتركيا المتنوعة لا يمكن حكمها بالقبضات وحدها.
من الحقائق أن تركيا المأزومة فى حربها مع «داعش» بضرباته الإرهابية، التى تتكرر من وقت لآخر، لا يمكن أن تواجهه بثقة وهى منقسمة على نفسها بفداحة.
كما أن تركيا المأزومة فى وجودها كدولة موحدة على خلفية التوترات المتصاعدة مع الأقلية الكردية، التى تمثل نسبة معتبرة من السكان، لا تقدر على بناء توافقات وطنية ضرورية تمنع بالوسائل السياسية قبل العسكرية نزع بعض أراضيها عند رسم الخرائط بعد انتهاء الحرب على «داعش».
مشروع الدولة الكردية فى شمال سوريا خطر غير متوهم، وانضمامها إلى كردستان العراق احتمال قائم، وانشقاق أكراد تركيا يستحيل استبعاده.
فى مواجهة مثل تلك الأخطار الوجودية فإن سياسات «أردوغان» تبدو عبئا ثقيلا على المستقبل التركى.
باسم «تركيا القوية»، التى يحكمها رجل واحد، فإن ذلك المستقبل قد يفلت عن الحافة التى يقف عندها.
ما هو داخلى فى تركيا يهم الإقليم كله، فهذا البلد جوهرى ومهم فى معادلاته.
القضية ــ بعد ذلك ــ لا يصح أن تخضع لازدواجية المعايير.
الذين يدافعون عن «أردوغان» بالنكاية فى نظم الحكم فى بلدانهم لا يحق لهم أى حديث عن أى انتهاكات مماثلة بحقهم.
والذين يهاجمونه باسم نظم ترتكب نفس الانتهاكات يفتقدون إلى أى أساس أخلاقى ينتسب إلى القيم الحديثة.
القيم الإنسانية لا تتجزأ.
هذه حقيقة لا يصح تجاوزها قبل أى اقتراب من الملف التركى المؤثر بالإقليم كله.
فى حديث الحقائق فإن الاستفتاء بموضوعه وظروفه وتوقيته يغلق صفحة فى التاريخ التركى منذ تأسيس دولته الحديثة عام (١٩٢٣) على يد «مصطفى كمال أتاتورك» دون أن يكون ممكنا أو متاحا فتح صفحة جديدة تحظى بتوافق وطنى واسع على طبيعة وقواعد إدارة الدولة.
تقويض «الأتاتوركية» لا يعنى انتصار «الأردوغانية».
هذه حقيقة أخرى ماثلة على المسرح السياسى التركى المنقسم بضراوة والمرشح لاضطرابات قد تطول وتأخذ أشكالا متعددة.
الدساتير بطبيعتها موضوعات توافق لا نزاع، كما أنها لا تحسم بالغلبة فى صناديق الاقتراع.
التجربة المصرية فى استفتاء (٢٠١٢) حاضرة لمن يريد أن يقرأ ما قد يحدث فى تركيا، ولو بسيناريوهات مختلفة.
بالغلبة فى صناديق الاقتراع مررت جماعة «الإخوان المسلمين» مشروع الدستور، الذى انفردت بصياغته بعد أن استبعدت ممثلى القوى المدنية فى أعمال الجمعية التأسيسية.
على الرغم من أن مخالفاتها الانتخابية أقل مما هو منسوب للرئيس التركى «رجب طيب أردوغان» ونسب التصويت لصالحها أعلى فإنها أسست بالانقسام الحاد لخروجها الكامل من السلطة.
بدا لافتا أن الجماعة ــ على الرغم من فوزها بنتائج الاستفتاء ــ قد خسرت القاهرة ومدنا كبرى أخرى، وكان ذلك مؤشرا على ما حدث تاليا، فالتغيير يبدأ من العواصم والمدن الكبرى حيث تتركز الطبقة الوسطى والفئات الأكثر تعليما وتقدما بمعايير التنمية البشرية.
المؤشرات نفسها تكررت فى الاستفتاء التركى حيث خسرت تعديلات «أردوغان» العاصمة أنقرة وأهم مدينة تركية استنبول ومدنا أخرى موثرة مثل أزمير، ولذلك تداعياته وحساباته فى قراءة المستقبل.
بأى قياس فإن الاستفتاء لا يؤسس لاستقرار ما تحت القمع والترهيب وحكم الطوارئ والعودة إلى عقوبة الإعدام، التى كانت حكومة «أردوغان» قد ألغتها من ضمن إجراءات أخرى تتطلبها شروط الالتحاق بعضوية الاتحاد الأوروبى، وقد اتسعت الفجوات معه إلى ما يشبه «الطلاق السياسى».
ذلك يضر بتركيا المأزومة قبل غيرها ويخفض من مستويات مناعتها أمام الأخطار المحدقة.
على الرغم من تشكيك دول أوروبية رئيسية فى نتائج الاستفتاء وطلبها من الرئيس التركى بناء توافقات وطنية ترمم الوضع المأزوم فى بلاده المنقسمة، فإن المصالح الاستراتيجية سوف تحكم العلاقات تحت خط لا تتعداه.
وقد كان الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» واضحا فى خياراته، فقد هنئ «أردوغان» بنتائج الاستفتاء دون عناية بأى معايير دولية لنزاهته ولا التفاتا لقضايا الحريات وحقوق الإنسان، لكن الميديا ومراكز الأبحاث فى بلاده سوف يكون لها رأى آخر.
ما بين المصالح والقيم سوف تتأرجح العلاقات التركية الأوروبية على الحافة.
الانتهاكات تحرج بقسوة والمصالح تمنع الصدامات المفتوحة إلا إذا مضى«أردوغان» إلى نهاية الشوط بالتصعيد ضد الاتحاد الأوروبى هروبا من أى انهيارات متزايدة فى شعبيته.
بعد رحلة من التراجع والارتباك والتورط فى الأزمة السورية ودعم مؤكد للتنظيمات التكفيرية مثل «النصرة» و«داعش» خسر«أردوغان» رهانه الكبير على أن يكون القرن الحادى والعشرون قرنا تركيا فى الشرق الأوسط.
عند سقوط بغداد عام (٢٠٠٣) تقدم إلى مسارح الإقليم، مع لاعبين آخرين، لملء الفراغ فى المشرق العربى.
مما زكى طموحه قوة النموذج الذى تبناه فى المزج ما بين الحداثة والديمقراطية والتعددية والإرث الحضارى الإسلامى ــ دولة علمانية لا تخاصم جذورها كما قال فى القاهرة عندما زارها عام (٢٠١١).
كما زكى ذلك الطموح أمران إضافيان على درجة عالية من الأهمية.
الأول: توافق واسع يتجاوز الانتماءات الحزبية على ذلك المشروع، وقد كان بوسع أى مطلع على الأحوال التركية قبل الربيع العربى أن يصل إلى هذا الاستنتاج بشىء من اليسر.
والثانى: الاطمئنان إلى المستقبل فقد تجاوز الاقتصاد التركى أزماته وبدأ يحتل مراكز متقدمة.. السابع أوروبيا والسابع عشر عالميا.
الآن لم يعد هناك توافق وطنى على أى مشروع ولا أى ثقة فى المستقبل.
تلك هى الخسارة التركية الحقيقية من انقلابات رجل فقد اتزانه واستبد به هوسه حتى بدت بلاده كأنها شخصه ومستقبلها مرهون به، لكنها ليست آخر الخسائر، فوجودها نفسه مهدد بينما الانقسامات مرشحة للتصاعد وأن تتجاوز كل حد وأى حافة.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved