خريف الدراما التاريخية والدينية

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 19 أبريل 2021 - 7:35 م بتوقيت القاهرة

إذا كانت خصوصية الخبرة المصرية الفريدة مع شهر رمضان المعظم، قد أفسحت للدراما التليفزيونية حيزا موفورا فى فضاء تقاليده وطقوسه، فقد استوحش المصريون، ومن ورائهم جموع عربية غفيرة، مجافاة المسلسلات التاريخية والدينية، للشاشة الصغيرة خلال الشهر الفضيل، كما فى سواه، منذ نيف وعقد من الزمن. الأمر الذى تجلت أصداؤه فى إقدام لجنة الدراما بالمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام عام 2019، على دق ناقوس الخطر، جراء افتقاد السيل الهادر من المسلسلات الرمضانية، لذلك اللون الدرامى الخلاق، الذى لا تنقصه المتعة، بقدر ما يفيض بالروحانية والسجايا الأخلاقية، كما يموج بالوطنية والروافد المعرفية.
تتشعب أزمة المسلسلات التاريخية والدينية لتطال مختلف مكونات بنائها الدرامى، الذى أصل له أرسطو فى مؤلفه الأشهر والمعنون «فن الشعر»، بما يتضمنه من حدث، وصراع، وحوار، تأتلف جميعها فى عمل درامى متماسك يجسده الشخوص، ضمن سياق منتج إبداعى متكامل، يدار اليوم من خلال عملية درامية تقنية واقتصادية معقدة ومنسقة ومتسلسة، تشمل الإنتاج والإخراج، والمونتاج، والطبع والتحميض، والعرض، والتسويق، وغيرها.
نظرا لما تنطوى عليه صناعة الدراما من بعد تجارى، لا يمكن إغفاله، إلى جانب الاعتبارات الفنية والإبداعية الأخرى، تمخضت الكلفة الباهظة لإنتاج المسلسلات التاريخية والدينية، استنادا إلى الطبيعة الخاصة للديكورات، والملابس، والمجاميع البشرية، والخيول ومناطق التصوير غير التقليدية، وأشياء أخرى عديدة من هذا القبيل، عن حالة من الإحجام لدى التليفزيون المصرى، ممثلا فى قطاع الإنتاج وشركة «صوت القاهرة»،عن إنتاج مثل هذا النوع من الدراما. بدوره، آثر القطاع الخاص اللوذ بالأعمال الدرامية الخفيفة ذات الربح السريع والمضمون. نتيجة لذلك، تضمن ماراثون الدراما الرمضانية الحالى 25 مسلسلا، لا يتعدى غالبيتها 15 حلقة، تتبارى خلالها دراما الصعيد مع دراما التطرف والإرهاب، إلى جانب شىء من دراما الحارة، دونما وجود لأية أعمال تاريخية أو دينية. فما برحت شركات الإنتاج تتخوف من تواضع عوائدها مقارنة بتفاقم ميزانياتها، خصوصا مع إعراض القنوات الفضائية عن شرائها، وعزوف المعلنين والرعاة عن المغامرة بالاستثمار فيها.
بظلالها الكئيبة، أطلت إشكالية ندرة الصناع المهرة للدراما التاريخية، من كتاب ومخرجين وممثلين وتقنيين. ففى ظل النزوع العام للاستسهال، بات من المتعذر وجود كُتاب قادرين على إعداد عمل تاريخى أو دينى يتسم بالجدية والدقة والموضوعية، كما أضحى من الصعب العثور على ممثلين مؤهلين لأداء أدوار تستوجب الإلمام بالمتطلبات المعرفية والنفسية للشخصيات، علاوة على إجادة اللغة العربية الفصحى، وهو ما يستعصى توفره فى ظل الضحالة الثقافية، وتواضع المواهب التمثيلية لغالبية الذين تعج بهم الساحة الفنية فى زماننا.
من جانبه، يرجع الصديق العزيز الدكتور جمال شقرة، أستاذ التاريخ المعاصر، ومقرر لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة، شح الدراما التاريخية المتعلقة بتاريخ مصر القديم تحديدا، إلى فقر الترجمة وضعف الإحاطة بلغات تلك العصور، ما يضطر صناع الدراما للجوء إلى بعض الترجمات غير المعتمدة، التى تنأى بهم عن ملامسة جوهر الحضارة المصرية العتيقة، لاسيما موقع الدين، ودور المرأة، واتجاهات التفاعلات المجتمعية. وتوسلا لمعالجة هذا الخلل، يقترح الدكتور شقرة استعانة مبدعى الدراما بمستشار تاريخى متخصص، وعدم الاكتفاء بالمراجع التاريخى، الذى ينتهى دوره عند مراجعة النصوص فقط. حيث تتخطى مهمة المستشار التاريخى نطاق التمحيص والتدقيق للأحداث، لتشمل المشاركة فى مختلف مراحل الإنتاج، كترشيح أبطال العمل الدرامى، واختيار الملابس، وتصميم الديكور، وتحديد أماكن التصوير، مع حضور أخذ المشاهد، مثلما هو متبع فى الغرب.
لقد أعاد التراجع المثير عن بث مسلسل «الملك»، المقتبس من رواية «كفاح طيبة» للأديب المصرى العالمى نجيب محفوظ، جراء انتقادات تاريخية وجهها له مختصون إبان الإعلان الترويجى للمسلسل، بالتزامن مع موكب المومياوات الملكية الفرعونية مطلع الشهر الجارى، تسليط الضوء على جدلية العلاقة بين التاريخ والإبداع الدرامى. فمن جهة، يجنح اتجاه فكرى إلى ضرورة تمكين الإبداع الدرامى من تقديم رؤيته الاجتهادية للتاريخ، وإن انطوت على تناقضات مع رواياته، على اعتبار أن العمل الفنى ليس تأريخا أو توثيقا للأحداث، ومن ثم يحق لصنَاعه تطويع التاريخ لأغراض درامية، شريطة عدم  تحريف أو تزييف الوقائع، لجهة مكانها وزمانها، وأبطالها الحقيقيين. وفى هذا السياق، سطع نجم «الفانتازيا التاريخية»، التى تتناول أحداثا درامية ذات خلفيات تاريخية، عبر استخدام أحدث الوسائل التكنولوجية، التى تتيح أعلى مستويات الإبهار والإيهام التخيلى.
فى المقابل، يتشبث اتجاه مغاير بحتمية التناغم بين التاريخ والإبداع الدرامى، خصوصا مع جنوح قطاع عريض من متلقى المعرفة التاريخية لاستقاء معلوماتهم من الأدب والفنون، غير مبالين بالبون الشاسع ما بين الدراما التاريخية، والتأريخ أو البحث التاريخى. ورغم أن جذوة ذلك الجدل المزمن لم تخبو بعد، يأبى تيار إبداعى عالمى ناهض، إلا التعاطى مع الفن كرؤية اجتهادية شخصية مستقلة، يتحرر خلالها مبدعوه من قيود التوثيق التاريخى. وهو التوجه الذى طفق المؤرخ الأمريكى، نيل فيرجسون، يؤصل له عبر أطروحته عن «التاريخ الافتراضى»، عام 1997، والتى اجتاحت عالم الأدب والدراما، كالنار فى الهشيم.
شاء من شاء، وأبى من أبى، ستبقى الدراما التاريخية، واحدة من أهم أدوات ومرتكزات قوة مصر الناعمة، كونها تسهم فى تشكيل «الصورة الذهنية» وصياغة «الوعى الجمعى»، فيما ستظل الدراما الدينية اختراعا مصريا خالصا منذ صدع بها الفراعنة من أروقة مسارح معابدهم قبل آلاف السنين. وإذا كانت تركيا الأردوغانية تزحف باتجاه تتريك، أو بالأحرى، «عثمنة» التاريخ الإسلامى، عبر ثلاثيتها الدرامية الضاربة «قيامة أرطغل» إنتاج 2014، و«قيامة عثمان» إنتاج 2019، و«نهضة السلاجقة» إنتاج 2020، فيما تتعقبها إيران لتفريس ذاكرة المسلمين من خلال مسلسلات على شاكلة «مختار نامة» إنتاج 2010، بينما انبرى الغرب، الذى يشهد ازدهارا لافتا بصناعة الدراما التلفزيونية، فى إنتاج المسلسلات التاريخية والدينية، التى تتبارى فى سبر أغوار الثقافات والجماعات العرقية بحقبة ما قبل سيادة المسيحية الكاثوليكية فى أوروبا، فحرى بالمصريين استنفار الجهود وحشد الطاقات لاستعادة زمام المبادرة بهذا المنحى الإبداعى مجددا.
لما كنا نعول على الدراما التاريخية والدينية باعتبارها درعا واقيا من موبقات الفكر الظلامى التكفيرى، وحصنا منيعا ضد الإرهاب والتطرف، تبقى الحاجة ملحة لاستنهاض الجهات والمؤسسات المعنية بالإبداع الثقافى والفنى فى بلادنا، لمواصلة الدور الوطنى المنوط بها فى هذا المضمار. فجدير بنا ألا نترك الساحة خالية أمام الشراذم المغرضة لتعيث فيها فسادا، بسعيها لملء الفراغ الناجم عن غياب تلك الدراما الهادفة، مستغلة انشغال الدولة، وتكاسل منابر الإبداع التنويرى، بحيث تنتهز الفرصة لترويج تراهاتها الهدامة وتسويق أفكارها المسمومة، توطئة لتنفيذ أجندتها السياسية المشبوهة.
ولعل فيما شهدته تونس قبل عامين عبرة لمن يعتبر. فبعدما استشعرت غيابا مفجعا فى الدراما التاريخية والدينية وسط زحام المسلسلات الهابطة، هرعت حشود شعبية إلى «حركة النهضة» الإخوانية، مناشدة إياها إنتاج أعمال درامية دينية وتاريخية، تناهض ما يصفونه بالأمية التاريخية المتنامية، والتجريف الممنهج للقيم الدينية، كما تتصدى لما ينعتونه بموجة الإباحية والانحلال الأخلاقى، التى تغص بها مسلسلات هزلية، باتت تستأثر بشاشات التلفزة منذ توقفت الأعمال الدرامية التاريخية والدينية قبل عشر سنوات مضت.
لئن كان صناع الدراما المصرية قد استسلموا للتخلى التدريجى عن استبقاء دور بلادهم الملهم والسبَاق فى الإبداع الدرامى التليفزيونى، الذى احتلت قصب السبق، عربيا، فى إنتاجه وعرضه على شاشتها الصغيرة قبل سبعة عقود خلت، من خلال المسلسل التليفزيونى «جهاز المعلم شحاتة»، فإنى ومثلما طالبت فيما مضى، من هذا المنبر الصحفى المرموق، باستحضار الإرادة، وتعبئة الإمكانات، لإنتاج أعمال درامية ترقى إلى عظمة تاريخنا الزاخر بالبطولات العظيمة، التى سطرها المصريون بدمائهم، كنصر أكتوبر المجيد، لأهيب اليوم بالدولة المصرية أن تعهد إلى مؤسسات وطنية عتيدة بمعاودة إنتاج دراما تاريخية ودينية، تدعم مساعى التواصل ما بين الأجيال الجديدة ولغتنا العربية الجميلة، وتعيد اكتشاف عظمة حضاراتها المتعاقبة، وترد الاعتبار لقوتها الناعمة.
أما وقد أسعدت السلطات المختصة ما يربو على مائة مليون مصرى، بإعادة إطلاق مدفع الإفطار، مطلع هذا الشهر المبارك، من ساحة متحف الشرطة بقلعة صلاح الدين الأيوبى، منهية توقفا ناهز ثلاثين عاما، بعدما قامت وزارة السياحة بترميمه ضمن خطتها لرفع كفاءة الخدمات السياحية بالمتاحف والمواقع الأثرية، فإن 380 مليون عربى لا يفتأون يترقبون، بفارغ الصبر، أن تثلج «هوليود العرب» صدورهم باستفاقة إبداعية، لا هى بالبعيدة ولا بالمستحيلة، لاسترجاع الريادة المصرية التليدة والخلاقة على صعيد إنتاج الدراما التاريخية والدينية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved