روسيا توازن محاولات الردع الغربية

معتمر أمين
معتمر أمين

آخر تحديث: الثلاثاء 19 أبريل 2022 - 7:15 م بتوقيت القاهرة

استعاد الروبل العافية بالرغم من الضربات الاقتصادية المتلاحقة التى ألمت به من جميع الدول الغربية. ولقد ضيق الغرب على الصادرات الروسية، وحصار التحويلات ومن ثم التعاملات مع البنوك الروسية، وجمد الأصول الروسية فى الغرب، واستهدف أنشطة رجال الأعمال الروس فى الدول الغربية. ومع هذا استوعب الاقتصاد الروسى الضربة الغربية بشكل كامل، بدليل تعافى الروبل الروسى لسعر صرفه قبل الأزمة. فلقد كان الدولار يساوى 80,42 روبل يوم 21 فبراير، ثم صعد إلى 139 روبل يوم 7 مارس فى السوق الرسمى وتخطى ذلك بكثير فى السوق الموازية، ثم انخفض سعره حتى بلغ 79,25 يوم 7 إبريل فى السوق الرسمية. ولو استمر سعر صرف الروبل عند هذا المستوى فإن جميع العقوبات الغربية تكون تلاشت بلا قيمة فى الأمد القصير، وقد يكون لها أثر ولو بعد حين. أما الآن، فإن ما فعلته روسيا لاستيعاب الصدمات الاقتصادية المتلاحقة بحاجة إلى المراجعة لكى نفهم كيف استعاد الروبل موقفه فى وقت قياسى أمام الدولار والعملات الغربية. فقد يأتى يوم ونحتاج فيه إلى تطبيق هذا الدرس.
إن صمود روسيا الاقتصادى ليس الأول من نوعه، بل توجد نماذج عدة لدول صمد اقتصادها أمام العقوبات الغربية لسنوات أو لعقود، ومنها إيران، وفنزويلا، وغيرها. لذلك الصمود الروسى ليس بجديد، ولكن ما حققه الصمود الاقتصادى الروسى مختلف من حيث قدرته على استعادة العافية، مما يطرح السؤال، هل تفقد آلية العقوبات الاقتصادية مفعولها فى المدى القصير؟ وهل يمكن تكرار النموذج الروسى فى التصدى قصير الأمد للعقوبات؟ هذا ما على الدول دراسته، لأن الإجابة بنعم تفتح الباب لهامش أوسع من الحركة والمناورة أمام الحكومات التى تعانى من السياسات الغربية. كما يفتح الباب لسؤال آخر أوسع، حول آلية الردع الاقتصادى فى المجمل. فكلما استطاعت الدول الحد من تداعيات الحصار والمواجهة الاقتصادية، ارتفعت فى مقابلها استقلالية مواقفها السياسية، واستطاعت المضى فى سياستها وحماية مصالحها بمواءمات سياسة أقل. أو باختصار، لو كان تراجع سلاح الردع الاقتصادى فى المدى القصير يتيح حرية المناورة، فإن تراجعه فى المدى المتوسط يفقد الجهة التى تتفوق فيها قدرتها على الردع.
ولقد كشفت المواجهة الاقتصادية الجارية عن فقدان بعض أدوات الردع الاقتصادى لفعاليتها ومنها أدوات سعر صرف العملة. فقيمة أى عملة لا تتحدد فقط بالعوامل الاقتصادية بناء على العرض والطلب على العملة نفسها. ولكن أيضا تتحدد بوسائط تداولها، أو الطريقة التى يمكن استبدالها بها. فلو أن العملة عليها طلب ولكن لا يمكن تداولها، فإن سعرها قد يتهاوى. التطبيق العملى لذلك يأتى عن طريق «جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك». المعروفة اختصارا بالسويفت، ومقرها فى بلجيكا. وهى جمعية تعاونية، مكونة من البنوك، وفى عضويتها الدول أيضا. تنظم هذه الجمعية وسيلة الاتصال بين البنوك لإقرار التحويلات. ولكن هذه الاتصالات ليست التحويلات الفعلية، ولكنها الرسائل التى تقر أو تطلب التحويلات. أما التحويلات نفسها فتتم عبر بنوك أخرى للتسوية. ولكن أى دولار يتم تداوله بين أى جهتين فى العالم، لابد أن يمر من خلال بنك نيويورك. وهذا يعطى للولايات المتحدة القدرة على وقف أى تعامل يتم بالدولار بين أى جهتين، تخضع إحداهما أو كلتاهما للعقوبات. ولأن الطاقة بشكل عام يتم تسعيرها بالدولار، فإن صادرات الطاقة الروسية تخضع للعقوبات الأمريكية، حتى لو لم تستخدم روسيا آلية السويفت. وللفكاك من هذه المصيدة المزدوجة، بين آلية السويفت وآلية الدولار، استعاضت روسيا عن كل ذلك ببيع طاقتها، لاسيما الغاز الطبيعى باستعمال الروبل، علما بأنها لم تقطع بالكامل من آلية السويفت!
• • •
لذلك انعكس الأثر الإيجابى على سعر صرف الروبل وعاد لمستويات ما قبل الأزمة مقابل الدولار. وهذا التحسن المؤقت فى قيمة الروبل مرتبط بقدرة الشركات الروسية فى الاستمرار على بيع الطاقة بالروبل، وأيضا على عدم قطعها تماما من نظام السويفت. وحتى لو انقطعت من نظام السويفت فإن روسيا لديها بديل مؤقت عن طريق «نظام تحويل الرسائل الماليةــSPFS» لكن يتوجب على روسيا تسويقه لضمان كثافة استخدامه ليس فقط فى المعاملات الروسية، ولكن فى التعاملات البينية بين البنوك. أمر آخر أدى لتقوية الروبل بطريقة مطردة هو عودة روسيا لنظام ربط العملة بالذهب، حيث ثبتت سعر مؤقت لشراء الذهب يبلغ 5000 روبل للجرام فى الفترة من 28 مارس وحتى 30 يونيو. ويبلغ سعر جرام الذهب الآن نحو 62 دولارا. وبالتالى، يكون الدولار بنحو 81 روبل. ولكن هذا النظام من ربط الروبل بالذهب، ذو طبيعة مؤقتة. ولكى يستديم لابد من إعادة التسعير بصورة دورية، لكيلا تتسع الهوة بين القيمة الحقيقية للروبل، وبين سعر الذهب العالمى، مما يتطلب عملية تصحيح لسعر صرف الروبل. على أى حال، الإجراءات التى اتخذتها روسيا لتقوية الروبل أدت لتماسكه. ولكن هل تستطيع أى دولة أخرى العمل بالمثل؟ للإجابة عن هذا السؤال لابد من استعراض قدرة الدولة الإنتاجية والوقوف على مدى الطلب على عملتها، ومن ثم نبدأ التحليل.
• • •
الخلاصة، استيعاب روسيا للضربة الاقتصادية الغربية، واستعادة التوازن، تساهم فى تماسك الجبهة الداخلية الروسية فى الأمد القصير. وتفوت الفرصة على الحلول التى تريد تغيير الوضع من داخل روسيا عبر تحرك شعبى بسبب الأوضاع الاقتصادية. وهذا بالضبط ما يحد من تأثير العقوبات الغربية، ويفتح السؤال عن إخفاق آلية الردع الاقتصادى. وفى المقابل، لم ينج الغرب من تبعات الحصار الاقتصادى الذى يحاول فرضه على روسيا. فلقد ارتفعت أسعار الطاقة فى كل الدول الغربية، وارتفعت أسعار العديد من السلع، وتوجد مؤشرات على نقص العديد من السلع فى الأسواق. بمعنى آخر، تكلفة الحصار الاقتصادى ليست مؤلمة على الجانب الروسى فقط، بل تطال تداعياتها الغرب أيضا. فإذا كانت إمكانيات واستراتيجيات روسيا مكنتها من فعل ذلك، هى ليست من أكبر 10 اقتصاديات فى العالم، فماذا عن إمكانيات الصين، ثانى أكبر اقتصاد فى العالم؟ هل تستطيع الصين الصمود أمام هجمة اقتصادية على هذا النحو؟ وهل يستطيع الغرب استيعاب انعكاس هذه الهجمات عليه؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved