دروس إعلامية من أفلام سينمائية

محمد عبدالمنعم الشاذلي
محمد عبدالمنعم الشاذلي

آخر تحديث: الأربعاء 19 أبريل 2023 - 9:23 م بتوقيت القاهرة

لعل من أكثر الحوارات الدائرة فى مصر سخونة هو الحوار حول حال الإعلام، الذى هو من أقوى أوراق القوة الناعمة لمصر، ولعب دورا محوريا فى التنوير وكان لسان حال مصر فى سجال إقليمى وعالمى. يظهر الحوار القلق على المستوى المهنى وأثر ذلك على المجتمع. لذا، أقيمت العديد من الندوات التى تناولت هذا الموضوع، وأدلى العديد من القامات الإعلامية ذات الخبرة والتقدير بمحاضرات وأحاديث لتعريف الإعلام ودوره ومسئولياته فى محاولة إصلاح وضعه وإعادته إلى جادة الحق.
جهود حميدة مشكورة من أساتذة كبار ولعلهم يسمحون لى أن أدلى بدلوى فى هذا الخضم باقتراح أن نجمع الشباب الذين نعدهم لاقتحام مجال الإعلام فى قاعة عرض لمشاهدة أربعة أفلام سينمائية، أعتقد أنها تعبر عن جوهر الإعلام ومنهجه. أول هذه الأفلام هو فيلم المدينة المجنونة «Mad City» من توزيع شركة الإخوان وارنر سنة 1997، من إخراج المخرج الفرنسى ذى الأصول اليونانية Costa Gavras وقام ببطولته اثنان من أشهر نجوم هوليوود هما جون ترافولتا وداستين هوفمان. يدور الفيلم حول موظف فى متحف فى مدينة أمريكية تبلغه مديرته أنه بسبب الضائقة المالية سيتم الاستغناء عن خدماته ضمن مجموعة من العاملين لتقليل النفقات. يتوسل إليها الموظف ويحكى لها عن ظروفه وأن زوجته تنتظر مولودها الأول وتحتاج أسرته إلى مرتبه من أجل الحياة، وعندما يستمر إلحاحه واسترحامه مع تصلب المديرة تستدعى أحد أفراد الأمن لإخراجه عنوة، ويدفعه الحارس ببندقيته التى يتشبث بها الموظف فتنطلق منها رصاصة تقتل الحارس. ويتصادف وجود رحلة مدرسية فى زيارة للمتحف، فتفرض الشرطة حصارا عليه وتنشط وسائل الإعلام فى شيطنة الموظف وإظهار كل نقيصة فى حياته ووصفه بالإرهابى المجرم، حتى يأتى مراسل إحدى المحطات التلفزيونية ويكلف بالتفاوض مع الموظف ويؤكد له أنها فرصته الوحيدة للنجاة. ويبدأ بدوره فى شيطنة الحارس القتيل وإدارة المتحف، فيتحول الرأى العام من لعن الموظف إلى متعاطف معه وينتهى الفيلم بانتحار الموظف ليقينه بأنه سيدخل السجن لا محال. يصور الفيلم قدرة الإعلام على التحكم فى الرأى العام وتحويله من نقيض إلى نقيض. لعل لحظة النهاية التى يرد فيها المذيع التلفزيونى بعد انتحار الموظف على من يسأل عما حدث، فيقول: «لقد قتلناه» فى اعتراف بأن الضغوط التى مارسها الإعلام عليه قضت عليه فى النهاية.
●●●
أما الفيلم الثانى فهو «كل رجال الرئيس» All the President’s men عن كتاب يحمل نفس الاسم للصحفيين بصحيفة الواشنطن بوست Bob Woodward وCarl Bernstein، وهو الكتاب الذى صدر فى سنة 1974 عن الفضيحة السياسية المعروفة باسم «ووترجيت» عندما اقتحم عملاء بأمر من الرئيس ريتشارد نيكسون المركز الانتخابى للحزب الديمقراطى. تابع الصحفيان القضية وقاما بتغطيتها بسلسلة من المقالات رغم الضغوط التى مورست عليهما، وتوجت حملتهما الصحفية باستقالة الرئيس ريتشارد نيكسون يوم 8 أغسطس عام 1974.
حصل الكتاب على جائزة بوليتزر كما حصل الفيلم على أربعة جوائز أوسكار. ويمثل الفيلم رسالة الصحافة والإعلام فى أسمى صورها فى التصدى للفساد وانتهاك القانون والدستور حتى لو تم ذلك على يد أعلى السلطات، وبذلك يكون الإعلام فعلا السلطة الرابعة وأداة حقيقية للرقابة والانضباط.
●●●
الفيلم الثالث هو Good Night And Good Luck الذى عرض سنة 2005 من توزيع الشركة اليابانية Tohokoshinsha عن الإعلامى الأمريكى العظيم Edward Murrow، وأخرجه النجم الشهير جورج كلونى وقام بدور مساعد فى الفيلم فى حين قام الممثل الأقل شهرة David Strathairn بدور البطولة، وحصل على جائزة أوسكار أحسن فيلم.
يدور الفيلم حول حياة مراسل محطة CBS الأمريكية الذى بدأ مشواره المهنى فى لندن سنة 1940 أثناء الحرب العالمية الثانية والقصف الألمانى للمدينة، وكان ينقل على موجات الأثير الغارات وأصوات القنابل وصافرات الإنذار. كان ينهى كل حلقة بمقولته «تصبحون على خير وحظ سعيد» Good Night And Good Luck التى اتخذت عنوانا للفيلم. لم يكتف مورو بتغطية الغارات من استوديو الإذاعة على الأرض بل إنه طار 25 طلعة على قاذفات القنابل البريطانية أثناء قصفها لألمانيا، وسجل هذه الطلعات وبثها إذاعيا ونقلتها محطة CBS. حقق البرنامج ناجحا هائلا واستدعته المحطة فى عام 1941 ليكون نائبا لرئيس الشبكة وأقامت على شرفه حفل عشاء حضره الرئيس فرانكلين روزفلت.
حقق مورو شهرة أكبر فى خمسينيات القرن الماضى عندما تصدى لحملة السيناتور الجمهورى جوزيف مكارثى، الذى استغل لجنة الأنشطة غير الأمريكية House UnــAmerican Activities Committee التى نشطت خلال الخمسينيات فى مطاردة من تشك فى أنهم متعاطفون مع الشيوعية، وحولها مكارثى إلى محكمة تفتيش ووضعت قائمة سوداء أدرجت فيها أكثر من 500 شخص من الإعلاميين ونجوم هوليوود. تسببت تلك المحكمة فى هجرة العديد منهم، ومن أشهرهم النجم العملاق شارلى شابلن الذى هاجر إلى سويسرا. كما ضمت القائمة المخرج والكاتب والممثل العملاق Orson Wells والمطرب الأسمر هارى بيلافونت. وشجعت اللجنة شخصيات بارزة فى هوليوود للوشاية على زملائهم وسط جو مشحون بالاتهامات والتخوين. وكان من أشهر الوشاة جاك وارنر رئيس شركة إخوان وارنر والمخرج الشهير إيليا كازان الحائز على جائزة الأوسكار والممثل الوسيم روبرت تايلور.
بلغ من غلو اللجنة والسيناتور مكارثى أنه حقق مع عالم الفيزياء الشهير Robert Oppenhiemer «أبو القنبلة الذرية الأمريكية» الذى قام على أكتافه مشروع مانهاتن السرى الذى صنع القنبلة فى نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ تعرض لاضطهاد شديد واتهامات بالشيوعية والعمالة لصالح الاتحاد السوفيتى. تصدى مورو لطغيان مكارثى ولجنته وشن حملة مكثفة عليه، وكان سببا رئيسيا فى سقوطه.
كان مورو من أول من نبهوا إلى خطورة سيطرة الإعلان على الإعلام فى وقت كانت إعلانات الشركات الكبرى تفتئت على البرامج السياسية والإخبارية. وحذر من تحويل شاشة التلفزيون إلى حائط مبكى مقاسه 27 بوصة. لعل مكانة مورو كعملاق إعلامى تتجلى فى محاضرة ألقاها فى عام 1958 أمام اتحاد قنوات الراديو والتلفزيون الإخبارية RTDNA بعنوان Wires and Lights in a box التى يستعرض فيها مفهومه عن الإعلام، وهل الغرض منه التسلية أم التوعية، وهل يجوز أن يتحول إلى أداة لإلهاء الناس عن الحقيقة والانعزال عنها؟، وهى محاضرة أنصح كل إعلامية وإعلامى شاب بالاطلاع عليها.
●●●
الفيلم الرابع والأخير فيلم بريطانى أبيض وأسود خالٍ من النجوم المشهورين وخال من الإبهار، لعلى أصفه بالممل لذلك لا أذكر اسمه أو اسم من شارك فيه. وحاولت أن أجده على اليوتيوب لكن دون جدوى، لكنه يمس قضية هامة نعانى منها بعد أن أتاح الموبايل المزود بكاميرا لكل شخص غير مؤهل أن ينقل الأخبار بلا وعى أو خبرة ودون تفنيد أو مراجعة أو إدراك لما يمكن أن يؤدى إليه ذلك من ضرر.
يدور الفيلم حول سيدة لا تعمل ولم تنجب وتعانى من الفراغ وتشغل فراغها بالتلصص على جيرانها وكتابة رسائل إلى الصحف المحلية عن فضائح الناس وأسرارهم. وفى يوم كانت تزور جيرانهم وتأخر ابنهم فى العودة من المدرسة مما أصابهم بالقلق وبعد عودته سألوه عن السبب، فقال أن سائق الأتوبيس أنزله لأنه لم يكن معه ثمن التذكرة لأن النقود سقطت من جيبه المثقوب. ورغم أن والدى التلميذ لم يهتما بالحادث إلا أنها ظلت ترسل خطابات إلى الصحف تتهم السائق بعدم المسئولية وعدم الإنسانية، فالصبى يركب معه كل يوم ومعروف له، وكان يمكن أن يطلب ثمن التذكرة فى اليوم التالى أو يتصل بأهله. ثارت ثائرة أهل المدينة على السائق رغم إصراره على نفى الواقعة مؤكدا أن الصبى لم يركب الباص فى اليوم المذكور. تعرض السائق لاضطهاد من زملائه ومن رؤسائه وسكان المدينة وأصيب بحالة من الاكتئاب ليلقى مصرعه فى حادث وهو هائم على غير هدى فى الشوارع. ويصحو ضمير الصبى بعد فوات الأوان، فيعترف أنه لم يأخذ الباص وراح يلعب مع بعض أصدقائه. يبين الفيلم مسئولية الإعلام عن توخى الحقيقة وعدم تصديق كل ما يصله من أخبار دون مراجعة، وهى أمور يدركها الإعلامى المحترف المؤهل وليس المدعى الدخيل.
●●●

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved