كيف ظهرت «موضة» الخصخصة؟

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: الثلاثاء 19 مايو 2015 - 9:25 ص بتوقيت القاهرة

تُروى هذه القصة الطريفة عن أستاذة الاقتصاد الانجليزية الشهيرة، جون روبنسون، إذ جاء إليها زميل لها فى جامعة كامبردج، وهو أستاذ للرياضيات، وقال لها إنه لاحظ على أسئلة الامتحانات فى علم الاقتصاد أنها تكاد تتكرر من عام لآخر دون تغيير ملحوظ، بينما يغير أساتذة الرياضيات أسئلتهم كل عام. وسألها: كيف لا يخشى أساتذة الاقتصاد أن يحفظ الطلبة الإجابات على أسئلة الاقتصاد، عن ظهر قلب، مادامت لا تتغير، فيصعب التمييز بين طالب وآخر؟ أجابت الأستاذة روبنسون ساخرة: إن الاقتصاديين لا يخشون أن يحدث هذا، إذ إنهم، وإن كانوا لا يغيرون الأسئلة، يقومون كل عام بتغيير الأجوبة!

مع مرور الزمن على بداية دراستى لعلم الاقتصاد، تبينت أن ما قالته جون روبنسون عن الاقتصاديين صحيح. فعندما ذهبت إلى انجلترا للتحضير للدكتوراه فى فرع من فروع التنمية الاقتصادية، كانت التنمية مازالت موضوعا حديث العهد، ابتدعه الاقتصاديون فى الخمسينيات من القرن الماضى، بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب العالمية الثانية، وحصول دولة بعد أخرى من الدول المستعمرة على استقلالها. أُطلق على هذه الدول، فى ذلك الوقت، اسم «العالم الثالث»، وأخذت تظهر نظرية جديدة بعد أخرى لتفسير ظاهرة التخلف الاقتصادى، وشرح أفضل السبل للخروج منها. كانت هذه النظريات، كلها تقريبا، تفترض أن تقوم الدولة بدور مهم فى الاقتصاد، وتتحمل المسئولية الأولى فى التنمية، ومع غياب هذا الدور المهم للدولة سوف يعنى فشل التنمية.

ليس هذا فحسب، بل كانت كتابات ونظريات التنمية تفترض وجود درجة لا يستهان بها من التخطيط، وأن التخطيط المطلوب هو التخطيط المركزى، وليس مجرد ما يسمى «بالتخطيط التأشيرى»، الذى يقتصر على إيجاد الحوافز لدفع القطاع الخاص للسير فى اتجاه دون آخر.
كان هذا الافتراض لوجود دور مهم للدولة فى التنمية، وقيامها بالتخطيط، يقال صراحة أو ضمنا، ولكنه كان موجودا على نحو أو آخر فى معظم نظريات التنمية. فلنتذكر النظريات الشائعة وقتها عن «النمو المتوازن» وعن «الدفعة القوية» اللازمة للتنمية.. الخ

فقد كانت السياسات التى تنصح بها، تعتمد فى نجاحها على إجراءات تتخذها الدولة، ولا يمكن توقع نجاحها فى ظل سيطرة القطاع الخاص.

رحنا إذن، نحن طلبة الدكتوراه، نكتب رسائلنا فى التنمية، أيا كان الموضوع الذى نتناوله مفترضين وجود دولة قوية. ولم نكن نقابل باعتراض من جانب أساتذتنا، إذ كانوا هم أيضا يعيشون فى نفس المناخ ويتنفسون الهواء نفسه. بل كان البنك الدولى وصندوق النقد الدولى ومختلف هيئات الأمم المتحدة ذات العلاقة بالتنمية، تقبل أيضا دورا مهما لدولة قوية ولا تعارضه.

كان المناخ نفسه يسيطر على السياسة الاقتصادية المتبعة فى الدول الصناعية أيضا. فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وطوال الخمسينيات والستينيات، ظلت الأفكار الكينزية هى السائدة، وهى التى تنتظر من الدولة أن تقوم بدور مهم لتحقيق العمالة الكاملة، وتجنب تكرار أزمة الثلاثينيات، وما جلبته من كساد وبطالة. بل وتبنت مختلف الحكومات الغربية فى ذلك الوقت، ما عرف باسم «دولة الرفاهة»، التى تلتزم بتوفير الخدمات الضرورية للجميع، وتمويل ذلك بما يفرض من ضرائب على القادرين، مما ضمن بالفعل تحقيق العمالة الكاملة فى تلك البلاد مع انتهاء عقد الستينيات.

كان هذا إذن هو نوع «الإجابة» التى يتوقعها الممتحنون فى امتحانات التنمية الاقتصادية، ولكن الحال بدأ يتغير منذ أوائل السبعينيات. بقى السؤال كما هو، ولكن الإجابة تغيرت، وبالتالى تغير معيار النجاح والرسوب.

لكن يكن سبب التغير ما قيل وقتها من أن الاقتصاديين اكتشفوا أنهم كانوا على خطأ، ولا كان السبب، كما قيل أيضا، أن سياسة الخمسينيات والستينيات قد استنفدت الغرض منها، وأن ما كان يساعد على التنمية فى هذين العقدين لم يعد يساعد عليها بعد ذلك. بل كان السبب الحقيقى أن الدول التى تصنع نظريات التنمية، تصدر إلينا كتبها وسياساتها، لم تعد تجد من مصلحتها استمرار الدولة القوية فى بلادنا، واستمرار ما نطبقه من سياسات الحماية والتخطيط.

أصبحت تلك الدول الصناعية، التى بدأت حكوماتها تخضع لمصالح وضغوط الشركات المسماة بالمتعددة الجنسيات، تجد من الضرورى أن تفتح بلادنا أبوابها لسلع هذه الشركات واستثماراتها، مما يتطلب إلغاء أو تخفيض الحواجز الجمركية، والتوقف عن إنتاج ما ينافس السلع المستوردة، أو يحول دون مجىء الاستثمارات الأجنبية إلى أراضينا، والامتناع عن حماية عمالنا عن طريق تحقيق مستويات عالية من تشغيل العمال ومن الأجور. كل هذا يتطلب «دولة ضعيفة» أو «دولة رخوة»، يمكن للشركات العملاقة أن تلوى ذراعها إذا شاءت، وتفرض عليها من الحكومات ما يحقق رغباتها.

ما الذى حدث بالضبط، فيما بين الخسمينيات والستينيات، وبين السبعينيات والثمانينيات، ليجعل هذا التغير فى سياسات التنمية مطلوبا من جانب تلك الدول والشركات، حتى ولو كان ضد مصالح دولنا نحن وشركاتنا وعمالنا، ومن ثم جعل تغير النظريات مطلوبا أيضا؟

لقد مرت الدول الصناعية خلال ربع القرن التالى للحرب العالمية الثانية بفترة من الرخاء لم تعرف لها مثيلا من قبل. ويبدو أن هذا هو ما سمح لكل هذه الأشياء الطيبة أن تحدث فى العالم: دولة الرفاهة، عمالة كاملة، أوروبا تبدأ مسيرة الوحدة بتكوين السوق الأوروبية المشتركة، وفى نفس الوقت يسمح لكثير من الدول المستقلة حديثا بتحقيق نهضة صناعية، بل وأن يتقارب بعضها من بعض للدخول فى صورة أو أخرى للتكتل أو الاندماج، لم تكن مألوفة قبل ذلك، ولا أصبحت مألوفة بعده. ذلك أن فرص الاستثمار والتسويق فى داخل العالم الصناعى كانت لاتزال واسعة طوال فترة إعادة تعمير ما بعد الحرب فى أوروبا واليابان.

ولكن عندما وصلنا إلى قرب نهاية الستينيات وأوائل السبعينيات، كانت هذه الفرص السعيدة قد بدأت فى التلاشى: دول متقدمة ينافس بعضها بعضا، ولا تجد كل منها فى أسواق الدول الأخرى فرصا جديدة لتسويق السلع والاستثمار، وبدأت تظهر ما سمى بظاهرة «الكساد التضخمى»، أى ركود اقتصادى وضعف فرص الاستثمار والتسويق، مصحوبا بالتضخم الناتج عما تحقق فى فترة سابقة، من ارتفاع فى الأجور وزيادة قوة نقابات العمال، والناتج أيضا عن محاولة الشركات العملاقة تعويض ما فقدته من فرص الربح عن طريق استغلال المستهلكين.

كان هذا هو الذى فرض تراجع دولة الرفاهة، وتراجع سياسات العمالة الكاملة فى الدول الصناعية، وفرض الانفتاح فى بلادنا الأسوأ حظا. كانت هذه هى الفترة التى زاد فيها الكلام عن الشركات متعددة الجنسيات، ونمو سلطاتها على حساب سلطة الدولة، ثم صعود التاتشرية والريجانية، وزاد الكلام عن العولمة، وأن العالم يتحول إلى قرية كبيرة واحدة، وكذلك بالطبع الكلام عن الخصخصة، وهى بيع ما تملكه الدولة للشركات الخاصة، وكأن الخصخصة هى العلاج الناجع لمشكلة التنمية. أما الحديث عن دور مهم للدولة فى الاقتصاد، أو عن ضرورة التخطيط أو حتى فائدته فى التنمية، فقد أصبح كلاما مرفوضا وممجوجا. وراح الممتحنون بالطبع يطلبون من تلاميذهم إجابات مختلفة تماما عما كانوا يطلبونه من قبل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved