ترامب بين السياسة والحكم
مصطفى الفقي
آخر تحديث:
الإثنين 19 مايو 2025 - 6:35 م
بتوقيت القاهرة
لم تحظَ زيارة رئاسية فى التاريخ المعاصر للمنطقة العربية بمثل ما حظيت به زيارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب لكل من السعودية وقطر والإمارات من حفاوة وتكريم واهتمام سياسى وإعلامى فاق التصور، وذلك لأسباب عديدة يقع فى مقدمتها أن الرئيس الأمريكى هبط إلى العواصم الثلاث فى ظل ظروف إقليمية ودولية صعبة، فهو منتخب لكرسى الرئاسة فى واشنطن منذ شهور قليلة وبأغلبية مريحة بعد تصريحات نارية وعبارات توحى بأن الرئيس الأمريكى فى دورته الثانية بعد دورة أولى وصل منها رئيس أمريكى بلا صوت مرتفع أو كاريزما صاخبة ونعنى به جو بايدن الذى توالت فى عهده نكبات إقليمية ودولية لعل أبرزها الحرب الروسية الأوكرانية ثم الحرب الأهلية الدامية فى السودان ثم الحرب المروعة على شعب غزة وسقوط عشرات الألوف من الضحايا فى كل منها، فجاء وصول ترامب إلى الحكم، وكأنه توقيت جديد وحالة مختلفة فقد تطلعت الأمم والشعوب إلى رئيس أمريكى قوى بغض النظر أن نكون معه أو ضده، لكنه يعبر فى النهاية عن أقوى دولة عسكريًا واقتصاديًا وتكنولوجيًا فى عالمنا المعاصر، لذلك كان وصول ترامب إلى الحكم هذه المرة ووراءه رصيد معرفى واضح بملامح شخصيته المتفردة وخروجه على التقاليد والأعراف لتحقيق سياساته التى يتطلع إلى نتائجها مئات الملايين من البشر.
ولقد استهل ترامب فترة ولايته الحالية بزيارة السعودية مثلما فعل فى ولايته الأولى منذ عدة أعوام، وكأنما يتفاءل بالأرض المقدسة ويرى أنها نقطة انطلاق لفترة جديدة وسياسات مختلفة، ولقد جرى استقبال الرئيس الأمريكى فى الرياض بحفاوة أسطورية لا تعبر عن رصيد مضى فحسب وإنما تمهد لمستقبل قادم من التعاون بين الرياض وواشنطن فى شتى المجالات الدولية والإقليمية بل والتكنولوجية أيضًا، كما أن ذلك اللقاء يأتى فى ظل ظروف دولية عاصفة وأوضاع إقليمية معقدة، فالحرب الروسية الأوكرانية لم تضع أوزارها بعد وإن كان قد بدأ يلوح فى الأفق بوادر احتمالات لنجاح جهود ترامب فى الوصول بالجانبين الروسى والأوكرانى إلى مائدة المفاوضات المباشرة التى تبدأ باستضافة تركية قد تكون بداية لحلحلة الأوضاع بينهما، كذلك فإن الصراع العربى الإسرائيلى قد يأخذ منحنى جديدًا بعد التراجع الواضح فى العلاقة التى كانت حميمة بين نتنياهو وترامب واتجاه واشنطن إلى إجراء تسويات مباشرة من خلال مفاوضات جادة بين فصائل المقاومة الفلسطينية والولايات المتحدة الأمريكية ربما جاء بعضها من وراء ظهر إسرائيل، وهو أمر يدعو إلى التفاؤل الحذر الذى يعتمد الشواهد الجديدة التى قد تكون إرهاصات إيجابية لرؤية أمريكية مختلفة إزاء ذلك الصراع المزمن فى الشرق الأوسط، كما أن ما يجرى فى السودان واليمن وربما فى ليبيا أيضًا سوف يحظى لا محالة بلفتات ترامبية تعيد الاستقرار لديهم بنفس الأسلوب الذى نجح فيه ترامب فى إيقاف القتال ورأب الصدع بين الهند وباكستان، ولم يغفل الرئيس الأمريكى الجديد عن الثغرة الكبرى فى الشرق الأوسط ونعنى بها التطلعات الإيرانية للبرنامج النووى فقد تحقق لكثير من الدول لكنه استعصى أمريكيًا على الحالة الإيرانية بالذات، وذلك لأسباب تتصل بدور إسرائيل ومخاوفها من وجود قوة نووية لدى الدولة الفارسية تتمكن بها من تهديد الغير بدءًا من الدولة العبرية التى تحوى ترسانة نووية كبرى ولا أحد يراجعها فى ذلك! فسياسة ازدواج المعايير والكيل بمكيالين هى حقيقة واضحة فى العلاقات الدولية المعاصرة، ولنا هنا عدة ملاحظات حول شخصية الرجل الأقوى فى عالمنا المعاصر، وهو رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بصلاحياته الواسعة وسياساته الغريبة وأسلوب حكمه الفريد الذى يجعل العالم أحيانًا واقفًا على أطراف أصابعه متوقعًا الجديد أو منتظرًا لمفاجأة لم تكن فى الحسبان، ولعلى ألخص العلاقة بين ترامب الرئيس الأمريكى وترامب رجل الأعمال وصاحب المشروعات فى ميادين المال والتجارة من خلال النقاط الآتية:
أولًا: إن الرئيس الأمريكى «مطور عقارى» يستطيع أن يتحرك بالشركة الخاسرة إلى شاطئ النجاح، كما أنه رجل أرقام وحسابات والمكسب والخسارة ليسا مجرد أرقام لكنها مؤشرات ودلالات تسمح له بالتحرك فى الاتجاه الذى يحقق الأرباح لحكمه وسياساته، ولأننا فى عالم الأقوياء فإن قدرة الرئيس الأمريكى على استعراض عضلاته السياسية معتمدًا على دور بلاده الضخم فى العلاقات الدولية المعاصرة كل ذلك يؤدى به إلى اختراق الصورة النمطية لرئيس أمريكى عابر إلى صورة حاكم فردى إصلاحى النزعة ولكنه ثورى الأسلوب يعتمد فيما يفعل على قناعات الآخرين به التى تبدو غير مألوفة أحيانًا ولكنها فى النهاية مقبولة ضمنًا. وترامب يستخدم أسلحة متعددة فى صراعه مع الماضى وتحدياته مع الحاضر، وهو لا ينسى أبدًا أن الاقتصاد هو الذى يقود قاطرة العالم ويحرك السياسات ويرفع من قدر الدول عند اللزوم، وتتحدد نظرته للدول من خلاله أيضًا، فهو يرى فى المملكة العربية السعودية مشروع عملاق اقتصادى عالمى معاصر لذلك فهو يتجه نحوها ويقترب منها ولقد جرى توقيع عدد من الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية وأيضًا الأبحاث المستقبلية فى مجالات الفضاء وعالم الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات مما يؤثر على مستقبل العلاقات بين البلدين ويدعم الوجود العربى على الساحة الدولية بشكل كبير، ونحن نرى أن ما تحقق للسعودية فى ظل إدارتها الجديدة وحكمها العصرى بمثابة نقطة إيجابية ستكون مفيدة فى حلحلة بعض الأزمات والمشكلات التى يعانى منها العرب اليوم فى علاقاتهم الدولية المعاصرة.
ثانيًا: مرت بخاطرى صورة نابليون عندما جاء إلى مصر فى مطلع القرن التاسع عشر ومعه حشد من العلماء حتى أصبحت الحملة الفرنسية فى ذلك الوقت هى إيذان بدخول الشرق دائرة التقدم الغربى، ومنذ ذلك الحين ونحن نوقت للدولة المصرية الحديثة بوصول نابليون وحملته الفرنسية، والمقارنة هنا مختلفة بالطبع فالدولة السعودية قائمة ومستقرة وتحقق معدلات للنماء والازدهار قبل ترامب وبعده ولكن استخدامه للتقدم التكنولوجى واصطحابه عددًا من العلماء وكبار رجال التكنولوجيا فى العالم المعاصر، وفى مقدمتهم إيلون ماسك بدت لى مؤشرًا لاستخدام التكنولوجيا الحديثة لفتح آفاقٍ جديدة للتعاون الاقتصادى والتبادل التجارى والشراكة القوية فى برامج التقدم التكنولوجي. وهذه نقطة ذكية ولاشك تحسب لترامب الذى وضع العلاقات السعودية الأمريكية فى مستوى مختلف عما كانت عليه من قبل، وهو بذلك يضع أسسًا طويلة المدى لشراكة عصرية ناجحة يستفيد منها الطرفان على نحو واضح.
ثالثًا: إن مضى المشكلات السياسية الإقليمية موازية لما يجرى فى المنطقة واتخاذ ترامب لمبادرات بناءة فى مقدمتها الوعد برفع العقوبات الدولية عن الدولة السورية الجديدة بل ولقاء الرئيس السورى أحمد الشرع بالرئيس الأمريكى ما يعنى اعترافًا كاملًا بالنظام السورى الجديد، كذلك كان حديثه متعاطفًا وحاميًا مع الدولة اللبنانية ومباشرًا وواضحًا مع الدولة الإيرانية التى أشار إلى تدهور اقتصادها وتطلعه لأن تلحق بالركب الذى ينطلق حاليًا من أجل التنمية والبناء بدلًا من الصراعات وتكوين الميليشيات وخوض الحروب.
إننا إذا استعرضنا العلاقة بين ترامب الشخص وترامب الرئيس سوف نجد أن كليهما يخدم الآخر فقد استطاع فى فترة وجيزة وشهور قليلة أن ينفخ نوبة صحيان تمتد بطول الدنيا وعرضها، وأنا أرى أن الحاكم القوى حتى لو كان معاديًا أفضل من الحاكم الضعيف حتى لو كان مؤيدًا، ونحن ما زلنا نرقب فى عالمنا المعاصر الدور الأمريكى الذى نريده أن يكون أفضل من ذى قبل وأقرب إلى العدالة فى قضية العرب الأولى، وهى القضية الفلسطينية التى تحدث فيها الطرفان السعودى والأمريكى منذ حوار الملك عبدالعزيز الكبير والرئيس الأمريكى روزفلت وصولًا إلى الحوار الحالى بين ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان والرئيس الأمريكى دونالد ترامب.
نقلًا عن إندبندنت عربية