تخرج من العقل إلى القلب

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الجمعة 21 يونيو 2019 - 3:16 م بتوقيت القاهرة

يمتلئ عالمى الافتراضى هذا الأسبوع بصور عشرات الأصدقاء ممن يحتفلون بتخرج أبنائهم وبناتهم من المدارس والجامعات. وقد درج فى السنوات الأخيرة أن يحتفل الناس بالتخرج من مراحل مختلفة من الحياة الدراسية، من حضانة الأطفال إلى المرحلة الابتدائية، ثم المدرسة الثانوية والمراحل الجامعية المختلفة.
***
هكذا بتنا نحتفل بكل انتقال مرحلى، وصار على أن أتعامل مع طفلة عمرها أربع سنوات على أنها نالت شهادة الدكتوراه من الجامعة لإنهائها لمرحلة الحضانة التحضيرية، أى ما يسبق حتى المرحلة التحضيرية فى المدرسة. صور الأطفال جميلة، وفرحة الأهل بهم حقيقية، فأنا نفسى يكاد قلبى أن يقفز من مكانه يوم أرى ابنتى تغنى وترقص مع أطفال فصلها. لكنى تساءلت وأنا أضغط على زر الـ«لايك» تحت كل صورة للتخرج عن تغيير أصاب المجتمعات عموما فى طريقة تعاملهم مع أحداث كانت حتى وقت قريب أحداثا عادية لا تستدعى كل ذلك الصخب.
***
متى صارت المرحلة التحضيرية فى ما يسمى بحدائق الأطفال موضوع تخطيط وتحضير وزى خاص؟ متى بدأت حفلات التخرج من المرحلة الابتدائية فى المدارس، وأعنى هنا شريحة معينة من المدارس والمجتمع، غالبا من الطبقة الوسطى فما فوق. ما زلت أذكر قصصا سمعتها فى عائلتى وبين أقربائى مثلا عن أن فلانة التى تزوجت فى سن صغيرة بعد أن «أخذت الإعدادية»، وآخر لمع فى عالم التجارة وأصبح من أكبر تجار خط نابلس ــ دمشق (طبعا حين كان السفر بين المدينتين ممكنا) رغم أنه لم ينهِ حتى المرحلة الابتدائية، فقد اعتمد فى نجاحه على ذكائه الفطرى.
***
أتخيل صديقة جدتى وهى «تأخذ الإعدادية» ثم تلبس فستان الفرح. أتخيل طفلا يهرب من شباك مدرسة الحى دون أن ينتبه له المدرس، هو نفسه التاجر الناجح الذى تغطى تجارته نابلس ودمشق وما بينهما. لم يتخرج هذان الطفلان ولم يرميا بقبعتهما فى الهواء كما يفعل نظراؤهما اليوم. لكن دعونا من كبار السن ومن عصور قديمة ولت. لم يحتفل أحد حتى سنوات قريبة، سوى بالتخرج من المدرسة الثانوية ومن الجامعة، وذلك إن احتفلوا أصلا. وقد كان وقتها الاحتفال يعنى الجلوس لمدة ساعات على كراس غير مريحة حتى تنتهى الدفعة كلها من استلام الشهادة.
***
ما علينا، لن أكون مصدرا للنكد بين آلاف الآباء والأمهات المحتفلين، فأنا نفسى سوف أشهد حفل تخرج ابنتى من المرحلة التحضيرية، وسوف أصورها وأقبلها وأقول لها إننى فخورة بما أحرزته من تقدم. سوف أضحك فى سرى وأنا أتذكر دراسات مطولة كنت أقرؤها فى مراحل دراستى وعملى فى المجال التنموى والإغاثى حول اكتساب الإنسان، خصوصا فى سنواته الأولى، أدوات البقاء على قيد الحياة أسوة بالحيوانات، ثم اكتسابه أدوت التواصل المجتمعى، بدرجات متفاوتة، بشكل يسمح له بالعيش ضمن المجموعة. هناك، وفى حالته الطبيعية، لا حفلات للتخرج ولا احتفاء فى غير مكانه بالعبور من حضانة الأطفال إلى المرحلة الابتدائية. لا تصفيق ولا بالون ملون طبعت عليه عبارات مبالغ فيها، لا صور ولا أزياء خاصة ترافق انتقال شخص من عامه الخامس فى المدرسة إلى عامه السادس.
***
ثم يأتى يوم التخرج، فأصطحب ابنتى إلى مدرستها وأجلس مع باقى أفراد أسرتى فى الكراسى المخصصة للعائلات. تبدأ فراشات ملونة ونشيطة بالدق على معدتى من الداخل، أميل رأسى يمينا ويسارا بحثا عن ابنتى. تزعجنى الأمهات ممن يقفن للحصول على رؤية أكثر وضوحا للمسرح الصغير، غير آبهات بمن يجلسون وراءهن ويحجبن رؤيتهم بوقوفهن. تبدأ الموسيقى ويدخل الصغار إلى القاعة يبحث كل منهم عن أهله. ها هى طفلتى تخرج أيضا فأشعر بقلبى يمشى على المسرح معها. يقال فى اللهجة الدمشقية إن «قلب الأم شرشوح» أى غير متماسك، بمعنى أن باستطاعة قلب الأم أى يذوب ويضحك عليه أى واحد من أبنائها. هى عبارة يستخدمها الدمشقيون ليصفوا انهيار كل محاولات العقل للسيطرة على القلب عند الأم. ها أنا بعد أيام من مراقبة صفحات أصدقائى على شبكات التواصل الاجتماعى وبعد ملاحظاتى حول عدم أهمية الاحتفالات المبالغ فيها، ها أنا أكاد أقفز لأحتضن ابنتى المتخرجة من حضانة الأطفال. بعد أيام من التأفف مما أراه على أنه صخب فى غير محله، ها أنا أذوب فخرا أمام صغيرتى التى تمشى بين الناس بدلال وترينى شهادة تخرجها.
***
ربما وبالنظر إلى حجم وسرعة وتيرة الأزمات الإنسانية والسياسية من حولى، ربما وبسبب اختلافات صارت تفرق الأصدقاء بشكل لا يمكن العودة عنه فتترك فراغا فى القلب، أصبح من الصحى أن يبحث أحدنا عن أى مناسبة للاحتفال، وعن أى سبب للبهجة حتى لو كان سببا غير مقنع. ربما وفى هذه الحقبة التى تبدو وكأنها سحبت بالإنسانية إلى القاع بدل أن ترتقى بها إلى القمة، ما يبقى هو لحظات صغيرة يخفق فيها قلب أم عند رؤيتها أحد أبنائها يمشى بين الناس دون أن يتعثر فتشعر أنها امتلكت الكون. قد يساعد ذلك على الخروج، ولو للحظات، من التحديق فى الشأن العام منعدم البهجة، إلى التركيز على شأن خاص يكون منبعا للحب. ربما فى تلك اللحظة أنا تخرجت من العقل إلى القلب، وربما هذا ما أحتاجه أحيانا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved