مَحذُوفات

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 19 يونيو 2020 - 8:15 م بتوقيت القاهرة

بعد طُولِ اعتياد؛ تبدَّل اسمُ الشارعِ العريض، وحلَّ في اللافتةِ القديمةِ أسمٌ جديد، وأزاح سلفَه مِن المَشهد؛ قاصدًا أن يُورِدَه طيَّ النِسيان.
***
في سياقاتٍ مُتباينة؛ جَرَت مُحاولات لا أعرف إن تكللَّ جَميعُها بالنجاح؛ لحذفِ أجزاءٍ مِن التاريخ؛ إما كونه مُوجِعًا مُخجِلًا، أو كونه يُعدّد فضائلَ المَهزومِ ويُمجده، أو لأن ثمَّة ما يَراه المُنتصِر أولى بالتَخليد. أذكُر على سبيلِ المِثال مُحاوَلةَ حَذْفِ ما تعلَّق بحُقبةِ حُكمِ الرئيسِ السَّابق محمد حسني مبارك مِن المَناهِج الدّراسيةِ، ومُحاولةِ مَحوِ أسماءِ بَعضِ المَيادين رغم ما لها من جُذور، إضافةً إلى إعادةِ تَسميةِ مَدارسٍ مُتعدّدة؛ أُريدَ لها أن تَحمِلَ عُنوانًا بعَينِه، وأن تتخلَّى عن هُويَّتها السابقة.
***
الأمرُ شائعٌ وإعادةُ تعيينِ الأسماءِ لا تَقتَصِر على بلدٍ دون آخر. نشرت الصُحفُ مُؤخرًا أن السُلطات السعودية أزالت اسمَ السُلطان سُليمان القانونيّ مِن أحدِ شَوارِعِها في ضَوءِ تَصَاعُد خلافاتِها مع تركيا، ولم يُعلّق المسئولون على خَبرِ الإزالة، وفي إطارٍ آخر؛ قرَّرَت مَنصَّة اتش بي او ماكس استبعادَ فيلم "ذهب مع الريح" مِن مَكتبتِها وحَذفِه مِن عروُضِها، وقد صَدَر القرارُ مُنذ أيامٍ قليلة على خَلفِية الاحتجاجاتِ الكُبرى التي اشتعَلَت في عدد مِن الولاياتِ الأمريكيةِ، ردًا على جرائمِ الشُرطةِ العُنصُريةِ الفَجَّة. هذه المرة توَالت التعليقاتُ؛ وطلَّ فنانٌ مَعروف عَبر قناة سي إن إن، يُؤَنب الرافضين لإعدام الفيلم قائلًا: "أحقًا ستشاهدون فيلمًا مُدته أربع ساعات مِن إنتاج عام 1939؟!".
***
لا يَخفَى أن غَرَضَ السُؤال بطبيعةِ المَوْقِف هو النَفي والاستنكار، والإجابةُ المَرجُوَّة ولا شكَّ هي: "لا لن يُشاهِده أحد"، والثابتُ أن الفيلم يُعَدُّ مِن كلاسيكيات السينما العالمية، تَخطَّى عُمرُه الثمانين عامًا، وطَردُه خارج منصَّات العَرضِ؛ لا يعني أن أحدًا لم يقُم على صِناعتِه أو أنه صار عَدمًا؛ تمامًا مِثلما لم يُؤدِ تبديلَ الأسماءِ المَغضوبِ عليها إلى تغييرها على ألسنةِ الناس.
***
حُجَّة مَن يُؤيدون حَذفَ الفيلم هي تقديمه العَبيد في حالٍ مِن السعادةِ والرِضاء، والحَقُّ أن في الصورةِ استفزازًا لا يُمكِن إنكاره، لكنَّا إذا نحَّيْنا جانبًا مَشاعرَ الحُنُق والاستفزاز؛ لوجدنا في المَشاهدِ المَغضوبِ عليها مادةً ثريَّةً للدراسة. دراسةُ الظرفِ والسِياق وطَبيعةِ طاقم العَمل؛ الراوي والمُخرِج والمُنتج، وتَسَلسُل الأفكارِ وتطوُّرِها، تفاعُل الحاضرين مع السيناريو، والاعتراضات التي ربما واجَهها، وأداء المُمثلين أصحابِ البَشرة الدَّاكنة، ومشاعرهم وهُم يَضعون على وُجُوهِهم الابتساماتِ المُشرِقَة؛ فيما يتعَرَّض بعضُهم واقعيًا لألوانٍ مِن الاضطهادِ وربما التنكيل. هذا كُلُّه فضلًا عن حَقٍ أصيل للمُشاهدين، في الاطلاعِ على ما أنتجَت السينما خلال حقبةٍ مِن الحقب؛ وتقييمِه ثم مُحاسبتِه، واختيار مُقاطعتِه أو استيعابِه أو مُقارعتِه.
***
الحَذفُ والتَجاهُل والاستِبعاد، كُلُّها أفعالُ سَلبٍ، لا تمحو ما جَرى ولا تُحيله وهمًا أو خيالًا، وربما كان مِن الأفضلِ الاحتفاظُ بها، لعلَّها تُثير الحَرَجَ والاستِحياءَ وتَدفعُ بالناسِ إلى واقعٍ أكثرَ إنسانية. ربما كان مِن الأجدَى أن تُوجدَ النقائضُ جنبًا إلى جَنب؛ أن يَحضِرَ المِثاليُّ العادلُ إلى جوار الظالمِ والمُغرِق في الانحطاطِ؛ إذ تظهرُ بالمُتَضَادات الحقائقُ وتَبرز المَعاني، وإذا عُرِفَ حاكمٌ أو قائد أو حتى مُبدِع عبر التاريخِ بالشائنِ مِن المَواقِف والأفعالِ؛ فأعظم مِن إسقاطِ صُورَتِه، وتَحطيمِ مُجسَّماتِه؛ أن يُخَلَّدَ قبيحُ فعلِه، ويُذكَر ظاهرًا إلى جانبِ أثَرِه. الأجدر أن يُتاحَ للناسِ التَعَرُّف على بَصمتِه، وأن يُمَكَّنوا دومًا مِن استرجاع ما ارتكبت يدُه، لا أن ينسونَه بمُرور الزَّمَن، ويَختلطُ الأمرُ على مَن يَخلفُونهم، ويأتي مَن يُزوِر التاريخَ لغرَضٍ في نفسِه، ويَتسَامح مع جَرائِم لا ينبغي إغفالُها.
***
تَجد المُزايداتُ في زَخمِ الثوراتِ والاحتجاجاتِ مَرتِعًا، وتُمسي الانفعالاتُ السَّريعةُ غير المَدروسةِ سيدًا للمَوقِف وقائدًا للجماهير، وفي أثرِها تَصدُر الأوامِر وتَنفُذ، وتُهدَر كثيرُ الإمكاناتِ والمُقوّمات. على كُلّ حال، في الاحتفاظِ بالتاريخِ مَهمًا بَلَغَت وقاحةُ مُفرداتِه مَكسَبٌ أكيد، وفي السَّماح بإخفائِه أو التَخلُّص مِنه تفريغٌ لمشاعرٍ مَكتومَة مُتراكِمة، ورضاءٌ لحظيٌّ؛ لكنَّ كليهما لا يبق.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved