أزمة اليونان وأوروبا والنظام الدولى

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: الأحد 19 يوليه 2015 - 8:55 ص بتوقيت القاهرة

أهمية أوروبا بالنسبة إلى العالم وإلينا تحتم علينا، مراعاة لمصالحنا وتعلما مما يجرى حولنا، أن نتابع شئونها وأزماتها.

عقد وزراء مالية مجموعة اليورو اجتماعا لبحث سبل حل الأزمة اليونانية يوم السبت 11 يوليو وقدموا ما توصلوا إليه إلى رؤساء دولهم وحكوماتهم الذين اجتمعوا فى اليوم التالى 17 ساعة متواصلة حتى توصلوا إلى الاتفاق المعلن عنه صبيحة الثالث عشر من يوليو.

أول درس يستخلص هو أن الرؤساء يسهرون ويتجادلون ويختلفون لساعات طويلة حتى يصلوا إلى ما يعتبرونه مصلحة مشتركة، ولا يكتفون مثل غيرهم من الرؤساء الدول بإلقاء كلمات شكلية أو تعبوية فى جلسات افتتاحية يدبرون بعدها عائدين إلى عواصمهم. بالإضافة إلى رفع سعر الضريبة على القيمة المضافة، وتوسيع الوعاء الضريبى ليشمل أشخاصا طبيعيين واعتباريين كانوا يتمتعون بإعفاءات ضريبية، ورفع سن التقاعد، وتخفيض الإعانات الاجتماعية، عرض وزراء المالية على رؤسائهم اقتراحين بخروج مؤقت لليونان من منطقة اليورو، وهو ما يعنى تخليها المؤقت عن العملة الموحدة والعودة إلى إصدار عملتها الوطنية والتعامل بها، وإنشاء صندوق يوضع فيه 50 مليار يورو حصيلة خصخصة هيئات عامة، تكون بمثابة الضمان لتطبيق اليونان للإصلاحات المتفق عليها، على أن تدير هذا الصندوق من لوكسمبورج شركة تنشأ خصيصا لهذا الغرض.

مصدر الاقتراحات ولاعب أساسى فى التوصل إلى الاتفاق عليها على المستوى الوزارى كان وزير مالية ألمانيا، وانضم إليه فى تشدده وزراء النمسا وفنلندا وهولندا وسلوفاكيا. هذه الدول اعتبرت أن اليونان لم تفعل ما عليها وأنه لا يوثق بها فهى وعدت بإصلاحات لم تنفذها. أما إيطاليا، وقبرص، وإسبانيا والبرتغال فكانت أكثر تفهما لليونان.

أغلب هذه الدول لم تجد مبررا لمعاملة تفضيلية لليونان فهى نفسها طبقت اجراءات تقشف قاسية فى السنوات الماضية، ولكن هذه الدول التى تعانى اقتصاداتها هى الأخرى من أزمات ربما هالها أنه رغم التقشف الذى سارت عليه اليونان فى السنوات الخمس الماضية وتسديدها لأقساط دينها الخارجى، ارتفعت قيمة هذا الدين بدلا من أن تنخفض حتى وصلت إلى 177 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى. انقسمت أوروبا بين شمال يرى نفسه جادا لا ينفق أكثر مما تسمح له به إيراداته، وجنوب مسرف وغير منضبط. بين الدول المتشددة من لا يمكن اعتباره شمالا فعلا من حيث الاقتصاد وتنوعه وانتاجيته، ولكن الحاصل هو أنه اتضح لمن لم تكن عيناه قد رأته بعد أن هناك خطأ غير مرئى بين الشمال والجنوب فى الاتحاد الأوروبى. بين الدول الواقعة على جانبى الخط، وقفت فرنسا وعمل رئيسها على التوفيق بين مطالب كل من ألمانيا واليونان وكان همه الأول هو ألا تخرج اليونان من منطقة اليورو ولو مؤقتا.

***

رؤساء الدول والحكومات اعتمدوا الأغلبية الساحقة من الاقتراحات التى رفعها إليهم وزراؤهم ونجح الرئيس الفرنسى فى أن يتفادى الخروج المؤقت لليونان من منطقة اليورو، كما انتزعت اليونان أن تكون إدارة صندوق الخصخصة فى اليونان ذاتها وليس خارجها، وإن قوبل طلبها بتخفيض دينها بالرفض التام. الكثيرون اعتبروا أن الإجراءات التى نص عليها اتفاق الثالث عشر من يوليو أكثر تشددا من تلك التى رفضها اليونانيون، بإيعاز من رئيس وزرائهم فى استفتاء الخامس من الشهر نفسه، وأنها إهانة لليونان واليونانيين. والشك قليل فى أن اعتبارهم أن فى الاتفاق إهانة كان سيزداد كثيرا لو كان الوزراء ومن بعدهم الرؤساء قد أخذوا بفكرة الوزير الألمانى أن تتولى مفوضية الاتحاد الأوروبى بنفسها مهمة «تفكيك تسييس» الإدارة العامة اليونانية، وهى عبارة يصعب فهمها ربما كان القصد الحقيقى من ورائها هو تطهير الإدارة من الفساد، ثم إدخال استقطاعات تلقائية على الإنفاق العام إن لم تنجح اليونان فى تحقيق الأهداف المحددة لها.

***

ما هى الأسباب الممكنة وراء المواقف التى اتخذها الممثلون الأساسيون لدولهم فى نهاية الفصل الأخير من المأساة الملهاة التى كان موضوعها من ابتدع المسرح، أى اليونان؟ ضبط المالية العامة أولوية لا جدال فيها بالنسبة لألمانيا باعتبار دروس فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى وما نتج عنها من معاناة اقتصادية أدت إلى جحيم النازية ونتائجها الوخيمة على الشعب الألمانى. ولأن الانضباط المالى ما جعل ألمانيا أقوى اقتصادات أوروبا وثالث اقتصادات العالم، يعتبر الألمان أن على الجميع أن يتحلوا به. حسابات الإهانة لا محل لها عند وزير المالية الألمانى، وعلى أى حال فمن يشعر بالإهانة يستحقها. غير أن من يتولى المستشارية فى ألمانيا لديه اعتبارات أخرى، سياسية، بالمعنى الرحب لهذه الكلمة. هذا ربما فسر النذر اليسير من تنازل المستشارة الألمانية عما طالب به وزيرها. ربما كان من أبلغ ما يعبر عن هذه الاعتبارات ما صرحت به المستشارة صباح يوم إعلان الاتفاق. ردا على سؤال عما إذا كان الاتفاق بمثابة الاستسلام بالنسبة إلى اليونان، شبيه باستسلام ألمانيا بعد الحرب الأولى، قالت المستشارة إنها ليست بصدد المقارنات التاريخية و«أننا لسنا فى أوروبا ألمانية». المستشارة تريد أن تتفادى بكل شكل من الأشكال أن ينظر الأوروبيون إلى ألمانيا على أنها تفرض عليهم إرادتها. هى تعرف أن حتى أولئك الذين يقفون مع ألمانيا فى تشددها إزاء اليونان سينقلب أغلبهم عليها إن رأوا فى سلوكها استئسادا. دور اللاعب الأول فى أوروبا الذى تضطلع به ألمانيا يتوقف على اطمئنان الدول الأوروبية لها وقبولهم بدورها وهو ما يحققه التكامل الأوروبى. ولعل بينة على سلامة تخوف المستشارة هو اشتعال مواقع التواصل الاجتماعى فى فرنسا وفى إسبانيا وفى اليونان بعد إعلان الاتفاق بعبارات غاضبة مناهضة لألمانيا ومعتبرة أن الاتفاق انقلاب على النظام السياسى اليونانى.

***

فرنسا اعتبرت أن خروج اليونان ولو مؤقتا من منطقة اليورو سيكون ضربة شديدة لعملية التكامل الأوروبى. فرنسا حريصة على التكامل الأوروبى وهو بالنسبة إليها ليس مشروعا اقتصاديا فقط، وإنما هو أيضا وأساسا عملية لبناء الأمن والسلم، تقرِب ألمانيا من فرنسا، وتنزع عنها ما تعتبره فرنسا مخالبها العدوانية التى طالما عانت منها.

أما رئيس الوزراء اليونانى فهو ربما اضطر إلى التسليم بأن رفض الاقتراحات بعنى الخروج من منطقة اليويو وبأن مجرد فنيات إنشاء عملة جديدة يتطلب اجراءات وسيستغرق وقتا ينهار أثناءه الاقتصاد اليونانى تماما، ولكن ثمة اعتبارات أخرى ربما فكر فيها أو كانت فى عقله الباطن.

الخروج المؤقت من منطقة اليورو كانت ستصحبه، فى الاقتراحات الأصلية لوزير المالية الألمانى، إعادة لهيكلة الدين الخارجى، وإن لزم الأمر فى إطار «نادى باريس»، نفس النادى الذى نشأ بشكل غير رسمى منذ زهاء خمسين عاما لإعادة هيكلة ديون بلدان العالم الثالث. ولكن حتى أشد المناهضين من اليونانيين لما يعتبرونه املاءات القائمين على منطقة اليورو يتمسكون بعضوية الاتحاد الأوروبى ولا يريدون أن ينظر إليهم على أنهم من شعوب العالم الثالث!

على مر التاريخ، كان تعامل اليونان القديمة أساسا مع الشرق وهو ما جعلها جزءا منه. ثم كان اليونان قلب الامبراطورية الرومانية الشرقية التى صارت بيزنطة، وكانت المسيحية اليونانية ومازالت عمودا أصيلا من المسيحية الشرقية. ومع ذلك فإن اليونان الحديثة منذ نشأت فى 1821 قامت على تأكيد انتمائها إلى غرب أوروبا وخاصة بريطانيا. أى سياسى يجرؤ فى ظل توتر عصبى ناشىء عن أزمة سياسية واقتصادية طاحنة وعن مفاوضات مضنية على أن يضع الرواية المعتمدة عن تاريخ بلاده موضع المساءلة وأن يطرح على الطاولة إعادة النظر فيه؟ وهل يوجد ما يغريه على ذلك؟ هل انتفضت دول العالم الثالث، كدول جنوب المتوسط العربية، كما انتفض هو معلنا مرة بعد أخرى رفضه لنظام اقتصادى أوروبى ودولى يستفيد منه الأقوى والأكثر تقدما على حساب المتخلف، سواء كان تخلفه مطلقا أو نسبيا؟ لم تفعل بلداننا العربية المتوسطية شيئا من ذلك.

***

لن يدخل الاتفاق حيز النفاذ، ولن تحل هذه الأزمة من أزمات التكامل الأوروبى، قبل أن يصدق عليه البرلمان اليونانى والبرلمانات الأوروبية الأخرى. ولكن على أى حال، لقد هبت من اليونان رياح الاحتجاج الجدى على التنظيم الاقتصادى لأوروبا، ولهذه الرياح احتياطى فى إسبانيا وفى غيرها.

لعل رياح الاحتجاج تصدر من الجنوب أيضا وتلتقى فى يوم ليس بعيدا مع تلك التى هبت فعلا فى شمال المتوسط، ليمكن بعدها إعادة هيكلة النظام الدولى وتنظيمه بما يوجد فرصا لتحقيق العدالة والسلم والتقدم فى العالم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved