أردوغان أسيرًا

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الثلاثاء 19 يوليه 2016 - 9:15 م بتوقيت القاهرة

يصعب الادعاء بأن الرئيس التركى «رجب طيب أردوغان» قد خرج بعد الانقلاب الفاشل أقوى مما كان عليه.

قوة الرئاسات لا تقاس بمستويات البطش والتنكيل بقدر ما تقاس باستقرار السياسات على رضا عام واسع.

يقال عادة إن للقوة حدودا لا تتعداها و«أردوغان» تجاوز كل حد.

التجاوز المنفلت تعبير عن ضعف مستتر.

بالأرقام الأولية فهناك نحو عشرين ألف معتقل وموقوف ومفصول من العمل بينهم عسكريون ورجال أمن وقضاة كبار ورجال إدارة وأكثر من مليون موظف ممنوعون من السفر وآلاف أخرى داخل أجهزة الدولة فى دوائر الاشتباه.

شهوة الانتقام استدعت الكلام عن إعدام خصومه قبل أى تحقيق أو محاكمة، وأفضى ذلك إلى دمغه دوليا بالطغيان.

هو رجل أسير مبالغات القوة، لا يقرأ الحقائق حوله وتستبد به «نظرية المؤامرة»، فيتهم حليفه السابق الداعية «فتح الله جولن» قبل أى تحقيق بأنه محرك الانقلاب، وأن تنظيمه «كيان موازٍ» اخترق الدولة فى كل مؤسساتها السيادية وهيمن على مفاصلها.

وهو رجل يهرب من مسئولياته فيما وصلت إليه تركيا من أزمات بنسبة الانقلاب إلى مؤامرة تورطت فيها جهات دولية، ولا يبدو أنه بوارد تصويب مساره بالانفتاح على القيم الديمقراطية التى أوصلته إلى الحكم أو تصحيح سياساته الإقليمية التى ساعدت بالتمويل والتسليح والتدريب «داعش» على التمدد فى بنية المجتمع التركى نفسه.

لم يكن الانقلاب عملا مسرحيا ألفه وأخرجه «أردوغان» حتى يعصف بخصومه.

هذا كلام يصعب قبوله ولا دليل عليه.

بذات القدر فإنه لم يكن «مؤامرة».

هذا كلام آخر يفتقد إلى أى دليل.

عندما يشارك نحو ثلث الجيش التركى فى تحرك عسكرى لإطاحة الحكم فالمعنى يتجاوز المؤامرة إلى الأزمة و«أردوغان» يغريه الانتصار السريع بالإنكار الكامل.

بالتوغل فى التوظيف السياسى لفشل الانقلاب فإن تركيا سوف تجد نفسها بالتداعيات أمام اضطرابات كبيرة داخل مؤسسات الدولة وفى بنية مجتمعها السياسى ترفع من منسوب القلق الدولى بالنظر إلى أهميتها كإحدى الدول المركزية فى الإقليم الأكثر اشتعالا وخطورة.

بالضرورة فإن الأحوال الاستثنائية تقتضى الحسم بقوة القانون لا الانتقام بوازع الشخصنة.

البطش بغير مقتضى دستورى وقانونى انفلات عن أية قواعد لها صفة الاعتبار فى عالمنا المعاصر الذى يرفض الانقلابات العسكرية لكنه بالمقابل يأبى الصمت على «الديكتاتوريات المدنية».

فى «ذروة النصر» أفضى الهوس بالانتقام إلى ردات فعل عكسية بالمراكز الدولية الكبرى أخذت تحذر من اعتبار رفضها للانقلاب تفويضا على بياض خارج كل قانون واعتبار إنسانى.

بعد يوم واحد أهدر «أردوغان» رصيدا كبيرا اكتسبه بفشل الانقلاب حيث بدا فى وضع أفضل نسبيا مما كان عليه قبله.

لا تخفى الأحزاب السياسية العلمانية واليسارية، التى مانعت فى طلب إزاحته بالقوة العسكرية بالنظر إلى السجل السيئ للحكم العسكرى فى تركيا، انزعاجها من تصرفاته الهوجاء ودعواته لإعدام خصومه.

ذات درجة الانزعاج بدأت تظهر فى المجال الإعلامى وعلى شبكات التوصل الاجتماعى حيث كان الرفض شاملا لعودة الجيش إلى مسارح السياسة رغم التضييق الذى مارسه «أردوغان» عليها حتى بات سجله فى الحريات الصحفية من أسوأ السجلات فى العالم.

تماسك المجتمع السياسى والإعلامى فى رفض الانقلاب سبب جوهرى فى فشله غير أن السبب المباشر انقسام الجيش على نفسه.

أسوأ استنتاج ممكن القول إن بضعة آلاف من أنصاره نجحوا فى إحباط انقلاب عسكرى لجيش يضم ستمائة ألف ضابط وجندى ويصنف عالميا كأقوى سابع جيش فى العالم.

لم تسجل الصور مظاهرة واحدة فى العاصمة أنقرة، وبحسب التقديرات الأولية للذين خرجوا للشوارع فى اسطنبول ليلة الانقلاب فإنهم لا يتجاوزون عشرة آلاف.

لا كانت هناك مئات الألوف ولا عشرات الألوف فى الشوارع ولا الأحزاب التى نددت بالانقلاب عبئت وحشدت.

فى غياب أى غطاء سياسى داخلى أو دولى فاعل كان الانقسام طبيعيا والفشل محتما.

دون أى أساطير عن حجم الذين نزلوا للشوارع فإن الكتلة الرئيسية فى الجيش هى التى حسمت سؤال السلطة قبل الأمن والاستخبارات.

رغم ذلك فقد تولى «أردوغان» وأنصاره إذلال الجيش، الذى سارعت وحداته المتمردة بالانسحاب من فوق جسر «البوسفور» وفق تعليمات القيادات العسكرية التى استعادت مقاليد الأمور فى هيئة الأركان، باعتداءات جسدية عنيفة وصلت إلى إجبار الجنود على خلع الزى العسكرى شبه عرايا.
بعض الصور المنشورة تكشف اعتداءات مماثلة على كبار القادة العسكريين قبل أى تحقيق قانونى، والعلامات ظاهرة على الوجوه.

الانفلات له ثمن مؤجل وتصفية حسابات مضادة تدخل تركيا فى فوضى مؤسسية ترفع منسوب العنف بطلب الانتقام، وقد بدأ سيناريو «الاغتيالات السياسية» يطرق أبواب اسطنبول باستهداف حياة نائب عمدتها.

عندما تقتحم قوات أمن قاعدة «إنجرليك» الجوية للقبض على قائدها، أو تسارع بعض الميليشيات المدنية للقبض على آخرين، فإن ذلك يفضى إلى بث مشاعر عدم الاحترام داخل المؤسسة العسكرية التركية للقادة العسكريين الذين احبطوا الانقلاب.

كما حدث فى التاريخ كثيرا فإن الإذلال المفرط يفضى إلى ردات عكسية مؤكدة.

إذا لم تترسخ الديمقراطية بالانفتاح على التيارات السياسية الأخرى وإرساء قواعد تحترم «دولة القانون» فكل شىء محتمل وكل انقلاب وارد، والانقلاب سوف يكون دمويا.

يصعب توقع أن ينزع رجل بمواصفات «أردوغان» إلى شىء من التعقل فى قراءة المشهد التركى.

فى أرجح السيناريوهات هناك تصعيد متوقع فى أزمة الأكراد يرفع منسوب الصدام إلى مستويات غير مسبوقة بين مكونات المجتمع التركى، و«داعش» سوف تجد فرصتها لمزيد من التمدد وتوجيه الضربات، فالمؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية مضطربة بعمق ولا أحد يثق فى الآخر.

وسط الفوضى المتوقعة قد يجد «أردوغان» نفسه أسيرا لسياسات تناهض العصر وقيمه الديمقراطية فى حفظ الحريات العامة ومتصادما فى الوقت نفسه مع القوى والتيارات السياسية الأخرى، وهى ليست ضعيفة ولا هامشية، كما قد يجد نفسه أسيرا لضغوط دولية لا قبل له بها توظف حماقاته لمقتضى مصالحها الشخصية.

الأخطر من ذلك كله قد يجد نفسه أسيرا للجنرالات فى الجيش والاستخبارات والأمن.

باسم أمن النظام فهو مضطر لاسترضاء الجنرالات حتى يمنع أى انقلاب عسكرى جديد أو استهداف حياته وأمنه الشخصى.

هذا أسوأ سيناريو لرجل أسير أوهامه، يقول إن «الديمقراطية انتصرت» على «الانقلاب العسكرى» ويتصور فى الوقت نفسه أن بوسعه العصف بأية قواعد ديمقراطية دون فواتير باهظة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved