إِقدَام

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 19 يوليه 2019 - 10:50 م بتوقيت القاهرة

عَرِفت أشخاصًا لا يُقدِمون على هَمسَةٍ إلا بعد استشارة المحيطين بهم فردًا فردًا؛ يعلم بأمرهم القاصي والداني، ويتداوله الناسُ كافة. عرفت أيضًا مَن يتخذون قرارات كُبرى في تكتُّم وهدوء؛ فلا يدري أحدٌ ما ينتوون، ولا يعرف بما يُفكِّرون ويُرتِّبون؛ إلا بعد التمَام.
***
قد يُقدِم المرءُ على فعلٍ، وقد يرتكب فعلًا. بعض الأحيان يعكس الإقدامُ وجُودَ مُخاطرةٍ، ومِن ثمَّ يَبيت المُقدِم عليها مَحَطَّ الأنظار، بل ومَحَلَّ إعجاب تبعًا للظروف والملابسات، أما الارتكاب؛ فيوحي بوجود خطأ ما؛ شيء في الأمر يشين مُرتكَبَه ويُخجِله. ربما اعتدنا أن نرتكب حماقات ومُوبِقَات، لكننا إذا أقدمنا، كان الفعلُ مَثار فَخرٍ واعتزاز. يحمل الارتكابُ في أذهانِنا إدانةً، بينما يحمل الإِقدامُ شجاعة.
الإِقدامُ مِن القدمِ، والقدمُ تَخطو، والخَطو يعني أن ثمَّة حركة، والحركةُ كما يقول المأثور: بَرَكَة.
***
يَتَطلَّب الإقدامُ كسرًا لساكنٍ، ودفعًا لراكدٍ، وربما مُواجهةً لعَقَبات. فيه قدر لا يُمكن إنكاره مِن الإِيجابِ، يُؤخَذ بما جَرَت العادةُ على مَحمَلٍ طَيِّب، مع أنَّ النوايا قد تَحمِلُ خيرًا أو شرًا. قد يُقدِم المرءُ على التعبير عن مَشاعر مُرهفة؛ فيبوح بها، وقد يُقدِم على مُصارحةٍ كانت لفَرطِ قَسوتِها مُؤجَّلة؛ فيحصد دوِيَّها. ثمَّة مَن يُقدِم عن بِشرٍ وثِقةٍ، ومَن يُقدِم عن غَضَب وإحباط؛ والمُهم في هذه الحال أو تلك أنه أَقدَمَ؛ فاتخذ القرارَ ونفَّذَه.
***

تذكر مَعاجمُ الُّلغة العربية أن الإقْدامَ هو الشجاعةُ، والمِقْدامُ هو الرَجُل كثير الإقدام على العدوِّ؛ إذ يخوض غمارَ المَعركَةَ. يمضي قُدُمًا في الأمر؛ أي يُواصِله ولا يتراجَع عنه مهمًا جرى، وأقْدَمَ على شيء؛ أي قام به في شجاعة، بلا تقاعُس أو تخاذُل. إذا أَقدَم المرءُ؛ فله حَظُّ العازمين، وإذا أنجَزَ فمكسَب مُضاف، وإذا جانَبَه التوفيقُ، حظي بشرفِ المُحاولةِ وحلاوةِ الإِقدام.
***
يقول المتنبي: لَولا المَشَقَةُ سادَ النّاسُ كُلُّهُمُ … الجودُ يُفقِرُ والإقدامُ قَتَّالُ، والمقصود أن الأفعال العظيمة تحتاج إلى مَن بحَجمِها، القادر على التصدي لها وتَحَمُّل تبعاتِها؛ فصاحبُ الكرمِ قد يذهب مالُه، وصاحبُ الشجاعةِ قد تنال مِنه السيوفُ، والراضي بالحالين، الساعي إليهما بإرادته الحرة؛ يَتسيَّد الآخرين.
***
"قُدَّام" مُفردة مألوفة، نستخدمها في حياتِنا اليوميةِ بكثافة، تتحول قافُها إلى ألف؛ فتبدو كأنها عاميةٌ مِصريةٌ أصيلة، بينما تنتمي إلى العربية الفُصحى. هي على كل حال نقيض "وراء" أو "خلف"، والخلفُ في ثقافتنا للأقل استعدادًا والأفترَ حماسةً، أما المُقدِّمة فلأصحاب المُبادرة والتفوُّق وفي بعض الأحوال الجَرأة. لا أنسى مَعاركَ عُظمى خاضها ذوو التلامذة الصغار في بدايةِ العامِ الدراسيّ، ولم يكُن لهم مِن ورائِها همٌّ؛ إلا الفوز بالمَقاعد المُتقدِّمة لأبنائهم في الفصول. أُصيبَ مِنهم عشراتٌ ونشرت الصحفُ مَشاهد كَرٍّ وفَرٍّ والتحام؛ هي مِن المُضحِكات المُبكِيات، وقد أَقدَم نَفَرٌ مِن الآباء والأمهات على تَسَلُّق الجُدران، لتحقيق الهدف وحَجز الصفوفِ الأولى، وقد كان.
***
نقيضُ الإقدامِ إحجامٌ، والإِحجامُ أغلبَ الأحيان نصيرُ الجُبنَ ورفيقه، ربما يُضيِّع على صاحبِه نصرًا وشيكًا، أو يذهب بفُرصة ليس في المُقدَّرات أن تتكرَّر. على كُلِّ حال، ثمَّة مَن يُحجِم عن خَوف، ومَن يُحجِم عن حِكمَة، ومًن يُحجِم عن زُهدٍ ورأفة وأحيانًا عن تَرفُّع واستعلاء. يقول الشاعر: وَمَا أحْجَمَ الأعْداءُ عنكَ بقيَّةً ... عليكَ ولكنْ لم يَرَوْا فِيك مَطْمَعا، والمعنى أن هذا الذي يتوجَّه إليه الكلام لا يستحقُّ عناءَ المُقاتلة؛ إذ لا مَكانة تُعليه ولا شأن له بين الناس.
***
هناك أيضًا مَن يُحجِم لأنه اعتاد الإِحجامَ دون سِواه، وقد اعتاد كثيرنا أن ينكُصَ عن كُلِّ تجرِبةٍ جَديدة، وعن اكتشافِ المَجهول، وعن طَرقِ أبوابِ المُغامرة؛ فالنتائج ليست مَحسومةً بطبيعةِ الحال؛ وقد تُصيب أو تَخيب، ونحن نفضل دومًا خيبتنا التي نشأنا عليها وألِفناها، عن خيبةٍ نُضطرُّ للتعامُل معها بلا سابق مَعرفةٍ أو لقاء. حُجَّتنا عند الإِحجام : "اللي نعرفه أحسَن مِن اللي ما نعرفوش".
***
ثمَّة بَيتٌ عَميقُ المَغزى يقول: لقد أحجمَ المثري فسَمَّوْهُ حازمًا ... وأحجمَ ذو فقرٍ فقيل هَيُوْبُ، والمَقصود أن صاحبَ الجاه والنفوذ يجد دومًا مَن يُزيِّن فِعلَه ويباركه ولو كان مُخزيًا، على عَكس ما يلقى مَن لا ثروة له ولا سَنَد، فإذا تشاركا سلوكًا واحدًا وأحجما عن أمر من الأمور؛ لم يقيم موقفهما بالعدل الواجب، بل تدخلت في الحُكمِ عواملُ أخرى؛ فصورت أولهما صارمًا قاطعًا، فيما وَصَمَت الثاني بأنه جبانٌ ناكِص.
***
إذا ذكر الناس الإقدام استدعوا إلى الأذهان حديث العزم والجرأة، وإذا جاء ذكر الامتناع والإحجام، استدعوا مشاعر الهزيمة، وتداعي الإرادة والهمَّة، ومن الطريف أن يُقال للأداة التي تُوضع على فمِّ البعير كي لا يَعَضَّ؛ الحِجامُ.

***
بعضُ المرات، يكون الإِحجامُ اختيارًا محمودًا؛ فإمساك عما فيه تهوُّر ورعونة؛ لأمر يستَحِقُّ التقديرَ والثناءَ، لكن القاعدةَ لا يُمكِن أن تكونَ في إمساكٍ وإحجامٍ وامتناع، القاعدةُ لا يُمكن أن تتأسَّس على السَلب، فالحياة ذروةُ الإيجاب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved