قميص سيمور

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 19 يوليه 2021 - 7:45 م بتوقيت القاهرة

كان سيمور شابا سفيها مدللا نشأ فى قرية أوروبية صغيرة فى البرتغال على ضفاف نهر مونديجو. كل سكان القرية كانوا يكرهون سيمور ولا يدعون مجلسا فى ناديهم إلا وتندروا بخصاله وتصرفاته الطائشة. كان سيمور يتعاطى الخمر حتى يثمل وتعبث الراح برأسه فيعيث فى طرقات القرية بكل أنواع الفساد. سيمور هو الابن الوحيد للسيد چون الذى قدم إلى القرية مهاجرا من الشمال منتصف القرن الخامس عشر.. عمل چون فى التجارة وكان يسافر عبر البحار والمحيطات ويترك زوجته وابنه بالشهور وعند عودته كان يغرق أسرته الصغيرة بالهدايا القيمة من كل مكان.. اتسعت تجارة چون وامتدت شهرته وذاع صيته بين القرى وأصبح قصره أكبر بيت فى الولاية كلها حتى قرر سكان القرية أنه أنسب من يتولى منصب عمدة القرية. وافق چون على الولاية بعدما أجهده الترحال ولكنه قرر أن يذهب فى رحلة أخيرة إلى الهند قبل أن يعود ويمارس سلطاته الجديدة التى اعتبرها بمثابة تتويج لمسيرة حياته الحافلة بالمغامرات.
***
فى رحلته الأخيرة إلى الهند كان عليه أن يحمل ما أمكنه حمله من صنوف التوابل والبخور التى تكفى قريته والقرى المحيطة لسنوات.
وبينما انشغل مساعدو چون وخدمه بتحميل البضائع فى الرحال والمركب، كان عليه تلبية دعوة تاجر هندى كبير كانت صفقاته مع چون سببا فى جمعه للكثير من المال.. أعد التاجر الهندى مأدبة كبيرة لچون وفى ختام الحفل أهداه قميصا حريريا أحمر اللون ثم قال له: «هذا القميص سيحمل لك الخير الكثير، فقد أهدانى إياه أحد السحرة عندما كنت فقيرا معدما، وأخبرنى أنه بشرى الخير، وأمرنى ألا أتخلى عنه إلا لأكثر شخص يجرى الخير على يديه» ثم حذّر التاجر الهندى چون من عدم ارتداء القميص مرة واحدة على الأقل أو التخلى عنه إلا لأكثر شخص صنع به معروفا.
استحسن چون قيمة الهدية ومضمونها ولكنه أسرّ فى نفسه ازدراءً لهذا القميص القانى، الذى لا يليق برجل محترم فى أوروبا كلها أن يرتديه أو أن يهبه حتى لأحد خدمه.. عند وصول چون إلى بيته انطلق سيمور يفحص الهدايا كعادته قبل أن يسلم على أبيه... لمعت بين الهدايا حلة حمراء تبين أنها القميص الحريرى الذى أهداه التاجر الهندى لأبيه.. تعلّق قلب سيمور بالقميص من أول وهلة وافتتن به إلى حد الجنون. ارتدى سيمور القميص الحريرى الأحمر الذى نسى أبوه أن يرمى به فى الماء خلال رحلة عودته إلى الديار، لم يهتم بسخرية أبيه من مظهره ولا نصيحة أمه بأن يخلعه قبل أن تصيبهم من الخلق معرة بهذا القميص... خرج سيمور على أبناء القرية مزهوا فى قميصه الأحمر فشيعه الناس بالسخرية والاشمئزاز، لكنه لم يلقَ لذلك بالا فأصبح يرتديه ليل نهار وينام به ولا يفكر فى خلعه، حتى إذا ما اتسخ وانبعثت منه روائح كريهة، كان يدلف به إلى مياه البحيرة الصغيرة، ثم يخرج به مبتلا ريثما يجف تحت حرارة الشمس البليدة أو قرب مدفأة غرفته بالقصر.
استيأس چون من ابنه وعناده وهو على أية حال مناط سخرية الناس بالقميص أو بدونه.. انخرط الأب فى عمله الجديد بالسياسة ووجد إلى جانب المال لذة كبيرة فى السلطة، التى هيأت له لأول مرة أن يسمع ثناءً ــ يعرف كذبه ــ عن ابنه السفيه.. فهذا رجل من الأعيان يخبر چون أن سيمور هو فتى الفتيان، وأنه يتمنى لو زوّجه ابنته! وذلك نائب العمدة يعقد مجلسا بلديا ويختتم خطبته بالمجلس داعيا الله أن يوفّق شباب القرية إلى الاقتداء بسيمور! فى البداية كان يقين چون وزوجته قد انعقد على إهمال هذا النفاق وعدم تصديق حرف واحد منه، لكن بمرور السنين صدّق الزوجان الرياء وخلقا واقعا كاذبا توّجا فيه ابنهما أميرا وجيها راشدا على عرش الأوهام.. بل إن سكان القرية من البسطاء ظنوا بأنفسهم شرا فيما قدموا من نبذ لسيمور وسلوكه، وسرعان ما التحقوا بوجهائهم فى إمطاره بأنواع المديح والتبرّك.. لم يعد سيمور وحيدا فى مجالسه وعبثه، بل التحق به المئات من شباب القرية وبعض كهولها الطامعين. انتشرت القمصان الحمر فى كل مكان، صارت سلعة نادرة يتم استيرادها بأغلى الأثمان، ولا يقدر على ارتدائها ــ خاصة الحريرى منها ــ إلا أبناء السادة والأعيان. كان الفقراء يلتمسون ثيابا باهتة الحمرة، رخيصة الخامة، حتى يمكنهم التقرب من سيمور وعصابته.
***
صار النفاق رخيصا مبتذلا إلى الحد الذى دعا أصحاب الدثور إلى ابتكار أنواع جديدة من التزلّف إلى چون وسيمور الذى بدا وريث حكمه بلا منازع.. فصائغ القرية صنع قطعة ذهبية أنيقة أهداها إلى سيمور كى يعلقها بقميصه الأحمر.. وعندما راقت القطعة لصاحب القميص اضطر الصائغ إلى إهدائه قطعة ثانية وثالثة.. واشترى أحد الأثرياء جوهرة أنيقة من خارج البلاد وأهداها لسيمور كى يثبّتها بقميصه. وتبرعت إحدى الغانيات بزينتها التى جعلها سيمور وشاحا للقميص.. صار القميص فى هيئته الجديدة أعظم ما يرجوه شباب القرية ويقلدونه... لم يعد قميص سيمور يظهر تحت الجواهر والقطع الذهبية إلا رقعا.. ظل سيمور محتفظا بعاداته التى ظن أنها كانت سببا فى شعبيته المستجدة، وبزوغ نجمه وشهرته، وفى مقدمة تلك العادات بالطبع ارتداء القميص الأحمر وعدم خلعه أبدا بكل ما أثقله به من الزينة.
تمكّن المرض والهرم من چون وانتقلت سلطاته تدريجيا إلى نائبه الذى أصبح الحاكم الفعلى للقرية، وسرعان ما انطفأت الأنوار فى قصر چون.. وعاد سيمور يتسكع وحده ويعاقر الخمر فى حانات القرية حتى الصباح، دون أن يجلس إلى مائدته غير الخدم ونفر قليل من المتململين منتظرى العطايا التى تصحب حالة السكر والتهتك.. وامتلأت صناديق القمامة بالقمصان الحمر.
وفى فجر يوم شتوى بارد كان سيمور يغادر الحانة مترنّحا، وقد ذهب عنه آخر خادم له بعدما نهره وأمره بالرحيل... امتزج نسيم الفجر المعطر برائحة غريبة تبين لسيمور بعد لحظات أنها تنبعث من قميصه الذى تذكر أنه لم يمسه الماء منذ أسابيع... لاحت البحيرة لعينى سيمور من بعيد.. وجد نفسه ينحدر إليها عبر شارع ترابى ضيق حتى غمرته المياه من كل الجهات.. كان الماء أقرب إلى التجمّد تيبست له مفاصل سيمور الذى أخذ يصارع لجّته للخروج إلى البر.. ولكن القميص كان ثقيلا أخذ يشد سيمور إلى قاع البحيرة.. عبثا حاول سيمور التخلص من بعض أثقال القميص.. كانت الجواهر مثبتة بقوة فى نسيجه، حتى الوشاح الذهبى خاطه فيه صاحب حانوت الحياكة بخيط مذهب كعربون صداقة... صاح سيمور يلتمس النجدة من أهل قريته، لكن أحدا لم يسمعه بعدما انصرف عنه الجميع.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved