«أميرة حلمى مطر» أستاذتنا الجليلة!
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 19 يوليه 2025 - 8:45 م
بتوقيت القاهرة
(1)
قبل ما يزيد على الثلاثين عامًا، وقع فى يدى كتاب صغير الحجم للغاية من قطع الجيب، وكان عنوانه (فلسفة الجمال) ضمن سلسلة (كتابك) فى أواخر سبعينيات القرن الماضى. وشدنى العنوان جدًا، ثم وجدت أول فصل فيه بعنوان آخر: (علم الجمال وتفسير الفن)؛ فهل الجمال فى حاجة إلى «علم» لندرسه أو نحيط به أو نتحقق من مقاييسه وأبعاده؟! أوَليس الجمال «نوعًا من العبقرية بل هو حقًا أرقى من العبقرية، لأنه لا يحتاج إلى تفسير، فهو من باب الحقائق العظيمة فى هذا العالم، إنه مثل شروق الشمس أو انعكاس صدفة فضية نسميها القمر على صفحة المياه المظلمة»، كما يقول أوسكار وايلد؟!
لم أكن أفهم فى هذه السن الصغير ما معنى أن يكون للجمال علم أو أن تكون هناك فلسفة للجمال، وهل كل شىء بسيط وجميل لا بد أن نصنع له رأسًا ورجلًا ونعقده حتى يستحيل شيئًا مركبًا بعيدًا عن الفهم والتذوق والتلقى المباشر؟! هكذا ظننتُ، وبسذاجة الجهل التى تمنح صاحبها رعونة عجيبة وثقة وهمية زائفة!
لكن الأمر اختلف تمامًا وكليًا عقب فراغى من هذا الكتاب الذى استغرق -وياللعجب!- أكثر من خمس سنوات كاملة، على صغر حجمه وعدد صفحاته التى لم تزد على الستين صفحة من أصغر قطع يمكن أن تتخيله لكتيب صغير؛ لأستطيع أن أدعى أننى قرأته بدرجة تحقق قدرًا من الفهم، وقدرًا من الوعى، وبعضًا من الإدراك للمفاهيم والمصطلحات التى استخدمتها مؤلفة هذا الكتيب صغير الحجم جليل القدر؛ الأستاذة الدكتورة أميرة حلمى مطر التى غادرت عالمنا منذ أسبوعين تقريبًا فى هدوء كما عاشت، وفى صمت يليق بعظماء هذا البلد الذين يرحلون بلا صخب ولا ضجيج ولا وداع لائق بقيمتهم وعظمتهم!
(2)
ولمن لا يعرف هذا الاسم؛ فالأستاذة الدكتورة أميرة حلمى مطر؛ رائدة فلسفية من رائداتنا العظام كانت على رأس الرعيل الأول ممن تخرجن فى قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة؛ وصارت بعد ذلك أستاذة الفلسفة اليونانية القديمة، وأستاذة علم الجمال، بذات الكلية والجامعة، تخرج على يديها أسماء وأسماء ممن صاروا بعد ذلك أساتذة كبارًا ومشاهير وأعلامًا!
كانت أستاذة جليلة حقًا، تركت أعمالًا قيمة فى مجال تخصصها الدقيق (الفلسفة اليونانية القديمة)، فضلًا على إسهاماتها العلمية الممتازة فى مجالات أخرى من فروع الفلسفة، وفى المعرفة والثقافة الإنسانية عمومًا، وقد نشرت دار المعارف أهم أعمال الأستاذة الجليلة تأليفًا وترجمة فى الفلسفة اليونانية، والفكر اليونانى، وفى علم الجمال وفلسفة الفن، والفلسفة السياسية.. ومن ينسى ترجمتها الرائعة لـ«محاورات ونصوص لأفلاطون»؛ ومنها محاورة فايدروس عن الجمال، ومحاورة ثياتيتوس عن العلم.
كما كتبت بالعربية دراسات رصينة معرفةً بعلم الجمال وفلسفات الفنون، وفى الفلسفة السياسية (لها كتاب مهم بالعنوان ذاته: الفلسفة السياسية من أفلاطون إلى ماركس) وغيرها من الإصدارات مما لا يستغنى عنه دارس للفلسفة ولا قارئ مهتم بجذور الفكر والمعرفة الإنسانية وتدعيم صلته بها.. فضلًا عن كتابها المرجعى القيم عن «الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها».
(3)
هذه إطلالة سريعة، مجرد نظرة طائر على ملامح هذه الشخصية رفيعة المقام؛ التى تمثل فى نظرى نموذجًا فذًا ورائعًا للأستاذية يبدو أنه فى سبيله للاندثار! لعل أبرز ملامح هذه الأستاذية التفوق الحقيقى؛ التفوق القائم على استيعاب للمعرفة وقدرة على تمثلها فى مظانها الرئيسية، واستكمال العدة اللازمة من إجادة اللغات (كانت المرحومة أميرة مطر تجيد اللغة اليونانيّة القديمة، واليونانيّة الحديثة، والفرنسيّة والإنجليزيّة) والإحاطة الكاملة والواسعة بأدبيات هذا التخصص أو ذاك وما يتصل به من فروع المعرفة الأخرى؛ ويحاط كل هذا فى النهاية بذائقة حساسة ومدربة وقدرة على التعاطى مع الفنون المختلفة، وهى تعتنى بقراءة الشعر وسماع الموسيقى الكلاسيكيّة، وتتذوق الفنون التشكيليّة، ويشكّل الفنّ عندها - وبجميع أشكاله - جانبًا مهمًا وأساسيّا من هواياتها، كما تروى عنها إحدى تلميذاتها من أستاذات الفلسفة.
كل ذلك فضلًا على ممارسة الأستاذية فى جوانبها أو وجوهها الأصيلة؛ التدريس، الكتابة المتخصصة، التأليف الموجه للقارئ العام، الترجمة، المشاركة النشطة والفعالة فى الندوات والمؤتمرات، بالإضافة إلى الإشراف على الطلاب النابهين والطالبات النابهات فى الدراسات العليا ومتابعة الجادين منهم والطموحين للوصول إلى آفاق الإبداع والتفوق والتميز والتفرد.
(4)
هكذا أرى أستاذية الدكتورة أميرة حلمى مطر (1930-2025)، وهكذا أرى نموذج الأستاذية الذى جعل من أبناء مصر وبناتها فى القرن العشرين فى طليعة صناع النهضة والريادة الثقافية العربية، وفى طليعة الذخيرة العقلية والفكرية التى لطالما تغنينا بها، فى الوقت الذى كانت بدأت تتآكل وتتسرب من بين أيدينا حتى صرنا إلى ما صرنا إليه!
شجرة علم ومعرفة وارفة بأكملها، رحلت عن عالمنا هذا، ولا عوض لها أو عنها فى القريب.