رسالة من روسيا

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الخميس 19 أغسطس 2010 - 11:07 ص بتوقيت القاهرة

 من مفارقات الأقدار وسخرياتها أنه فى حين كانت الصحف المصرية تنشر مقالات الهجوم على حضور الدين فى مناهج التعليم، فإن روسيا قررت إدخال دروس الثقافة الدينية إلى المدارس المتوسطة، وكذلك السماح لرجال الدين بالعمل بين أفراد القوات المسلحة الروسية.

ليست بعيدة عن الأذهان تلك الحملة الشرسة التى نددت فى مصر بما سموه «تديين التعليم».

وتواصلت حلقاتها فى مقالات عدة استهدفت شيئا واحدا هو إقصاء الدين عن مناهج الدراسة، و«تطهير» الكتب المدرسية من الإشارة إلى مرجعية أو حتى مصطلح له علاقة بالدين. حتى عبارة «السلام عليكم» استنكرها أحدهم فى كتب المطالعة، وطلب حذفها بدعوى أنها محملة بإيحاءات موصولة بالانتماء الدينى.

وبدا أن ثمة رسالة خبيثة مطلوب تعميمها تقول إن الأقباط فى مصر لن يهدأ لهم بال طالما بقى للدين الإسلامى أثر فى المجال العام بالبلد. وهى رسالة بالغة الخطورة، ليس فقط لاستحالتها من الناحية العملية ولإضرارها الجسيم بوضع الأقلية، ولكن أيضا لأنها تضرب أساس التعايش وتحول الحساسيات العارضة إلى عاهات دائمة، الأمر الذى يهدد الاستقرار فى البلد ويخل بأمنه القومى.

الخبر الروسى ليس جديدا تماما، لأن قرار الرئيس ميدفيديف الخاص بإدخال دروس الثقافة الدينية إلى المدارس صدر فى 12 يوليو من العام الماضى، لكن أحدا لم يسمع به آنذاك.

وقد وقعت عليه فى عدد أخير تلقيته من صحيفة «الإسلام فى روسيا»، حيث تصدر الخبر الصفحة الأولى مع بعض التعليقات والإيضاحات، التى وصفت القرار بأنه «خطوة ثورية»، هى الأولى من نوعها فى التاريخ الروسى، سواء فى عهد روسيا القيصرية أو المرحلة السوفييتية.

وكما معلوم فإن تلك المرحلة الأخيرة أعلنت الحرب على الأديان جميعها، وقررت «الإلحاد» مادة تدرس فى جميع مراحل التعليم، الأمر الذى أحدث فراغا روحيا هائلا فى روسيا الاتحادية كانت له سلبياته العديدة التى ظهرت جلية خلال العقدين الأخيرين.

ذكرت الصحيفة التى يصدرها المجلس الإسلامى الروسى أنه حين غاب الدين تعرض المجتمع الروسى لأعراض التفكك والانحراف إضافة إلى الخلل الذى أصاب منظومة القيم السائدة فيه. فشاع التحلل الاجتماعى وانتشر بشكل مخيف الإدمان على الخمور والمشروبات الكحولية، وتراجع النمو السكانى على نحو مؤرق. وشاعت الأنانية التى اقتربت بالسلوك الاستهلاكى المنفلت والجشع، كما برزت مظاهر التطرف القومى، التى هددت فكرة التعايش المشترك بين بلد اتسم بتعدد أقوامه.

(فى روسيا الاتحادية 182 عرقا، منهم 57 عرقا مسلما). وهى الملابسات التى استدعت اتخاذ مجموعة من الإجراءات من جانب السلطة، كان من بينها تشجيع الانبعاث الدينى. فى هذا الصدد استشهدت الصحيفة بقول أحد أبطال رواية ديستوفيسكى، أديب روسيا الشهير، أنه إن لم يكن هناك إله، فكل شىء يصبح جائزا.

قرار الرئيس الروسى لم يكن منفصلا عن أجواء التهدئة والتفاهم التى سادت العلاقات بين الحكومة ومسلمى الاتحاد الروسى (نحو 40 مليونا). وهى الأجواء التى فتحت الأبواب لترميم المساجد والتوسع فى إنشائها.

إضافة إلى السماح بفتح المدارس والجامعات (96 مؤسسة تعليمية دينية و7 جامعات إسلامية). والاتجاه إلى إنشاء قناة تليفزيونية إسلامية، وقبول روسيا كعضو مراقب فى منظمة المؤتمر الإسلامى. وفى سياق هذه العلاقة الإيجابية قام الرئيس ميدفيديف بزيارة جامع موسكو الشهير، لأول مرة فى تاريخ مسلمى روسيا.

لقد انتقلت روسيا خلال ربع القرن الأخير من مرحلة العداء للدين تحت الحكم الشيوعى إلى طور فصل الدين عن الدولة فى ظل «البريسترويكا»، ثم تقدمت خطوة إلى الأمام بحيث أصبحت الصيغة الراهنة كالتالى: الدين منفصل عن الدولة وليس عن المجتمع.

إن الفرق بين دعاة مناهضة التدين فى بلادنا وبين أولئك الذين يستدعونه فى روسيا، هو ذاته الفرق بين أناس تحركهم مراراتهم وحساباتهم الخاصة، وآخرين يحركهم الصالح العام، أو قل إنه بين أناس يدافعون عن عقدهم وأهوائهم وآخرين يدافعون عن أوطانهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved