الرهان على الفوضى

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 19 أغسطس 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

كان لكل طرف فى الصراع على المستقبل المصرى تقديراته وخططه لما بعد فض اعتصامى «رابعة العدوية» و«النهضة» والوقائع خالفت التوقعات بدرجات مختلفة.

فى اجتماعات مجلس الدفاع الوطنى، وأصداء ترددت فى اجتماعات مجلس الوزراء، مالت التقديرات الأمنية والعسكرية إلى توقع «عملية إرهابية كبرى» فى محيط «رابعة العدوية»، أو فى المنطقة المجاورة، تسقط أعدادا كثيرة من الضحايا وتثير فزعا عاما، ولم يكن هناك توقع أن تمضى الحوادث العنيفة إلى محاولة تقويض الدولة بذات السيناريو الذى جرى فى (٢٨) يناير (٢٠١١) باستهداف مراكز أمنية ودور عبادة وعدالة ومنشآت عامة ومتاحف وإثارة الفزع العام، وهو السيناريو الذى اعتمدته قيادات الجماعة واستعدت لمواجهاته رهانا على فوضى فى بنية مؤسسات الدولة يترتب عليها تغيير جوهرى فى معادلات اللعبة السياسية تعيدها إلى الحكم مرة أخرى بضغط من قوى دولية متحفزة.

رهان الجماعة فاجأ حساب السلطة وأربكها لبعض الوقت، فقد كانت المواجهات واسعة ومستويات العنف غير مسبوقة، وأدى ذلك إلى عدم توفير الحماية اللازمة لكنائس أحرقت أو القدرة على منع اقتحام بعض أقسام الشرطة والتنكيل بضباطها وجنودها مثل ما جرى فى كرداسة، لكنه أخفق فى النهاية بتحقيق أهدافه بصورة تضع مستقبل الجماعة بين قوسين كبيرين، فهناك تفكير جدى لحلها واعتبارها «إرهابية» لكنه من المستبعد أن يصدر قرار بهذه الكيفية فى مدى منظور والمرجح تأجيل الملف كله إلى وقت لاحق تكون الحقائق كلها استقرت على الأرض.

تناقضت إذن الرهانات فى حالتى السلطة والجماعة، طرف سعى لتخفيض كلفة الدم إلى أقصى درجة ممكنة خشية أن تؤدى عواقبه إلى أزمات مستحكمة تنال من شرعيته وقدرته على إدارة شئون البلاد وسمعته الدولية فى الوقت نفسه.. وطرف آخر سعى إلى توسيع المواجهات الدموية إلى أقصى ما يستطيع، وإثبات عجز السلطة عن السيطرة الأمنية مهما كانت كلفة الدم أو التوغل فيه داعيا إلى تدويل الأزمة وتدخل أجنبى مباشر فيها.

بدورها مالت الرهانات الغربية لإعادة مصر إلى ما قبل خطوط (٣٠) يونيو لأسباب أخرى غير التى تحكمت فى جماعة الإخوان المسلمين، توقعت حمامات دم تأخذ المستقبل المصرى إلى احتراب أهلى، وربما استنساخ السيناريوهين السورى والجزائرى، قبل أن يثبت فشل رهاناتها التى وفرت غطاء دوليا للعنف فى مصر.

لم تبد التصريحات الغربية انزعاجا من رفع رايات «القاعدة» على سيارات مسلحة فى ميدان رمسيس، أو حمل السلاح الآلى فى مظاهرات عامة وإطلاق رصاص حى من فوق الجسور على شرفات المنازل، أو الاعتداء المنهجى على أقسام الشرطة والمنشآت العامة والحرائق التى نالت من مبان حكومية.. وكان لافتا أن الإدارة الأمريكية وحركة طالبان استخدمتا عبارات الإدانة ذاتها فى وصف فض الاعتصامين وما تلاه من حوادث دامية وأن البيانات الغربية أدانت طرفا بتهمة ارتكاب أعمال عنف وأسبغت على الطرف الآخر صفة «السلمية» وغضت الطرف عن المشاهد المصورة، وكان ذلك من ألعاب المصالح الكبرى.. فالغرب لا تعنيه كثيرا الدماء المصرية من هذا الطرف أو ذاك ولا جماعة الإخوان المسلمين لها قيمة عنده إلا بقدر تفاهماتها الاستراتيجية معه فى ملفات المنطقة.

تراوحت لغته بين مستويات مختلفة من الحدة والمرونة بحسب تطورات الوضع على الأرض، له رهانات على الجماعة لكنه غير مستعد لخسارة الدولة المصرية، يلوح بإجراءات عقابية ضد السلطة الانتقالية لكنه يتحسب لخطواته، فلكل خطوة عواقب استراتيجية قد لا تتحملها مصالحه، وحركة تصريحاته أقرب إلى البورصات تعلو وتهبط مؤشراتها من لحظة لأخرى.

فى البداية ساد قلق كبير فى مراكز صناعة القرارين السياسى والأمنى من تداعيات الضغوط الغربية، التى تصاعدت بصورة حادة قبل وبعد فض الاعتصامين، ووصلت إلى التلويح بعقوبات ضد مصر وسلطتها الانتقالية والذهاب إلى مجلس الأمن للتشاور حول ما يجرى فيها. ورغم أن الاجتماع الأممى كان تشاوريا لا تترتب عليه قرارات إلا أنه كان مؤشرا جديا على اتجاهات تصعيد إذا ما تفاقمت الأحوال الأمنية. الأمر ذاته ينصرف إلى اجتماع بروكسل لممثلى الاتحاد الأوروبى الذى يعقد اليوم، وقد تولت ألمانيا دور العازف الرئيسى فى أوركسترا التصعيد، ودعت مستشارتها «أنجيلا ميركل» إلى إعادة النظر فى العلاقات مع مصر، وكانت الأكثر تشددا، رغم أن استخبارات بلادها حذرت فى نهايات عهد «محمد مرسى» من أن مصر باتت دولة راعية للإرهاب، وانضمت إليها فرنسا بدرجة التشدد ذاتها.. وفى التصعيد المتدرج مراوحة دبلوماسية مقصودة حتى تستجلى الحقائق على الأرض.

الرهان على الحقائق بات الآن رهان السلطة الانتقالية، فبقدر ما تستطيع من تأكيد سطوة الدولة وقدرتها على فرض الأمن وحصار جماعات العنف فإن الأطراف الدولية سوف تراجع مواقفها بالتأكيد، فمصالحها تقودها، وقد نجحت بدرجة كبيرة أن تواجه موجة عنف استهدفت الدولة ومؤسساتها لا مثيل لها منذ (٢٨) يناير (٢٠١١).. وقد فشلت الجماعة هذه المرة بفداحة لافتقادها أى غطاء شعبى، وأدى عنفها إلى ارتفاع منسوب الكراهية معها وتلطيخ سمعتها بالإرهاب.

يوما بعد آخر تترسخ لدى السلطة الجديدة فكرة ألا تلتفت بانزعاج للضغوطات الدولية عليها، وبعضها هزلى من دول هامشية، وأن ترهن مستقبلها على ثقة شعبها، وأن الأمر كله سوف يحسم هنا فى الميدان.

فى الصراع على المستقبل حصدت السلطة غطاء إقليميا له قيمته وثقله وفره العاهل السعودى فى لحظة حاسمة، وهو غطاء ينطوى على رسالة للقوى الغربية بأن العالم العربى لن يسمح بالتدخل فى الشئون الداخلية لمصر التى تخوض حربا ضد الإرهاب، وتوصيف الصراع على هذا النحو نقطة تحول جديدة، كما ينطوى على احتمالات ضخ أموال خليجية جديدة فى شرايين الاقتصاد المصرى المتعب تعوضه عن أية تهديدات غربية بمنع المساعدات عنها. ومن ناحية استراتيجيات المنطقة فإن السعودية بما تمتلكه من موارد نفطية ونفوذ فى منطقة الخليج تمثل مع الموقع المصرى عند اتصال البحرين الأبيض والأحمر فى قناة السويس ما لا يمكن غض الطرف عنه.. بما يدعو لخفض الضغوط أو وضع سقف لها لا تتعداه.

إدارة «أوباما» تدرك قبل غيرها أن الوضع الداخلى فى مصر هو العنصر الحاسم فى نهاية المطاف، تتابع وترقب وتقرر مواقفها وفق مصالحها، أمسكت العصا من منتصفها، ألغت مناورات النجم الساطع، لكن وزير دفاعها أبلغ المصريين أن العلاقات العسكرية المصرية الأمريكية لن يجرى المساس بمستوياتها الحالية، دعت إلى إلغاء حالة الطوارئ فى مصر ولم تدن الأسباب القهرية التى دعت إليها، قادت أوركسترا التصعيد لكنها بدت أقل حدة من أطراف أخرى رئيسية أو هامشية فى المعادلات الدولية، وكان ذلك مقصودا بأن تصل الرسائل بلغة أكثر خشونة من حلفاء آخرين دون تتحمل الإدارة مسئوليتها المباشرة.. وأفسحت لنفسها عمليا أن تراجع مواقفها المعلنة على النحو الذى ذهبت إليه المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية «جينفر ساكى» من أن «معلومات أفادت بأن بعض المتظاهرين لجأوا إلى العنف»، أو الإدانة المتأخرة لموجة حرق كنائس فى مصر. لم تكن الحقائق غائبة إلى حد اكتشافها متأخرا لكنه يتبدى بالوقت أن توفير غطاء دولى للعنف فى مصر يضر بصورة فادحة بالمصالح الاستراتيجية الأمريكية فى المنطقة.

المعنى فى ذلك كله أن المنطقة كلها مرشحة لتعديلات استراتيجية بعد ما جرى فى (٣٠) يونيو.

بجملة واحدة فإن الهدف الرئيسى من التصعيد ضد السلطة الانتقالية: العودة إلى ما قبل خطوط (٣٠) يونيو، ولا يعنى ذلك وفق الحسابات الغربية عودة «محمد مرسى» إلى مقعد الرئاسة، فهذا ملف انطوى، ولا أن تستعيد الجماعة سلطة فقدتها، فهذا ملف آخر تجاوزته الحوادث وصراعاتها وحقائق القوة فيها، وإنما يعنى إعادة تطويع السلطة المصرية لمقتضيات الاستراتيجيات الغربية على ما اعتادت عليه بعد حرب أكتوبر (١٩٧٣).. فلم يحدث منذ نحو (٤٠) عاما أن جرت فى مصر تحولات جوهرية فى بنية الحكم أو فى توجهاتها الرئيسية دون تشاور مسبق مع الإدارة الأمريكية أو إشارات مرور خضراء برعايتها، وقد دشن الرئيس الأسبق «أنور السادات» القواعد التى حكمت العلاقات بين القاهرة وواشنطن بعبارته المثيرة أن «٩٩٪ من أوراق اللعبة فى يد الولايات المتحدة»، وبعد توقيع المعاهدة المصرية الإسرائيلية خرجت مصر من الصراع العربى الإسرائيلى وجرى تهميش دورها فى عالمها العربى، وأخلت مواقع تأثيرها فى القارة الأفريقية، وتدهورت علاقاتها مع الاتحاد السوفيتى السابق، وفكت تحالفاتها مع دول محورية فى آسيا مثل الهند والصين، وأدارت ظهرها بالكامل لأمريكا اللاتينية.

أفضى الرهان ذاته على عهد الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» إلى تحول مصر إلى مستعمرة أمريكية، تتقرر مصائرها فى واشنطن وبدا البيت الأبيض صاحب الكلمة الفصل فيمن يتولى السلطة بعده حتى أطاحته ثورة يناير، وقد تدخلت الإدارة الأمريكية فى معادلاتها وأدت ضغوطها على «المجلس العسكرى» إلى إخفاق المرحلة الانتقالية وإجهاض ثورة يناير نفسها وذهاب تضحياتها لغير أصحابها. راهنت إدارة «أوباما» على الجماعة وأجرت تفاهمات جوهرية معها تجاوزت مصر إلى محيطها فى مسألتى المعاهدة المصرية الإسرائيلية وإعادة ترتيب المنطقة من جديد بعد «بشار الأسد»، واستند الرهان الأمريكى على اعتقاد بأنها الأكثر تنظيما وأن طبيعتها الأيديولوجية تخولها أن تلعب دورا فى الصراع المذهبى السنى الشيعى الذى يراد تعميمه فى المنطقة كأساس لإعادة ترتيبها من جديد.. ولا يعرف حتى الآن بالدقة الواجبة حدود الالتزامات التى قطعتها الجماعة على نفسها، لكن ردود الأفعال الأمريكية والغربية على إطاحة «مرسى» بدت غاضبة إلى حد طرح التساؤلات عن حجم التفاهمات، فالغرب لا تعنيه الجماعة ولا مستقبلها، ولابد أن استراتيجياته قد تعرضت لضربة هائلة فى عمودها الفقرى.

ما أفزع صانع القرار الأمريكى بعد (٣٠) يونيو أن مصر خرجت عن السياق وما جرى الاعتياد عليه لنحو أربعين سنة وتملكتها مجددا فكرة استقلال القرار الوطنى واستعادة شيء مما كانت عليه فى الستينيات.. وهنا صلب الصراع على المستقبل المصرى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved