إصلاح القطاع العام وحيرة السياسة العامة فى مصر

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 19 أغسطس 2018 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

• رأى عام منقسم

أثار حديث الرئيس السيسى عن إصلاح قطاع الأعمال العام فى أثناء افتتاحه مصنع الأسمنت فى بنى سويف الأسبوع الماضى موضوعا ذا شجون. لقد انقسم الرأى العام فى مصر إلى معسكرين بالنسبة لهذا الموضوع، فريق من صناع الرأى والمسئولين الحكوميين والمواطنين ذهب إلى أن كارثة الاقتصاد المصرى تعود أساسا إلى توسع الدولة فى ملكيتها للمشروعات الإنتاجية ليس فقط من بداية توليها المبادرة بإنشاء بعض هذه المشروعات فى النصف الأول من خمسينيات القرن الماضى بل مضيها فى هذا الطريق بتمصيرها الشركات الأجنبية فى النصف الثانى من ذلك القرن ثم بمد يدها إلى الشركات المصرية الكبيرة والمتوسطة وأحيانا الصغيرة بإجراءات التأميم التى انطلقت بعد ذلك وخصوصا بين عامى 1961 ــ 1964. هذه السياسة نقلت أساليب الإدارة الحكومية إلى مؤسسات يجب فى رأيهم أن تعمل وفقا لمنطق الربح الخاص وليس تبعا لتعليمات إدارية، وأحلت قيادات غير مؤهلة للعمل الاقتصادى سواء كانت من المسئولين الحكوميين أو الضباط محل الرأسماليين المصريين ملاك هذه الشركات الأصليين، وبذلك حرمت الاقتصاد المصرى من مهاراتهم وقدراتهم على توليد الاستثمار، وأغلقت السوق المصرية أمام أى منافسة سواء من شركات مصرية خاصة أو من منتجات أجنبية، وهو ما أضعف الحافز على الجودة، وأدى إلى تدهور الإنتاج، وصعوبة النفاذ إلى أسواق خارجية، وفضلا على ذلك فإن احتكار الدولة لمعظم القطاع المنظم غير الزراعى وبعد قوانين الإصلاح الزراعى قوى من قبضة الحكم التسلطى، وباعد من فرص تحقيق الديمقراطية والتى كان يمكن أن ترفع لواءها برجوازية مصرية كانت فى طريقها للصعود حتى أواخر الخمسينيات من القرن الماضى. كما جاءت التطورات الدولية مثل سقوط النظم الاشتراكية فى أوروبا الشرقية وتحول الصين إلى تشجيع القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية ونجاح دول شرق آسيا خصوصا وبعض دول أمريكا اللاتينية فى الارتقاء إلى مصاف الدول الصناعية الجديدة لتدعم اعتقاد هذا الفريق بأن توسع القطاع العام فى مصر كان خطأ نجم عن الانجذاب نحو النموذج الاشتراكى الذى ثبت من وجهة نظره فشله التام اقتصاديا وسياسيا.
***
لا تقنع هذه الحجج فريقا آخر من المصريين الذى رأى فى توسع دور الدولة فى الاقتصاد نتيجة لإخفاق النموذج الرأسمالى فى مصر قبل ثورة 23 يوليو 1952. فمع تسليم هذا الفريق بأن الاقتصاد المصرى كان ينمو منذ النصف الثانى من الأربعينيات إلا أن هذا النمو لم يكن كافيا لتوفير العمالة حتى لخريجى الجامعات ويشيرون فى هذا الصدد ليس فقط للإحصائيات ولكن لما سجلته أعمال أدبية لروائيين ليبراليين مثل القاهرة الجديدة لنجيب محفوظ، ناهيك عن الفشل فى تخفيف حدة البطالة أو الفقر فى الريف المصرى، يضيفون إلى ذلك أن هذه الرأسمالية المصرية والتى تولى بعض رموزها أعلى المناصب الحكومية لم تقدر على كبح النزعة الفردية فى قمة النظام الملكى ولا التمكين لحزب الأغلبية أن يكمل أى فترة برلمانية فى الحكم. ويشيرون إلى أنه مع كل الصعوبات الاقتصادية التى عرفتها مصر فى سنوات الستينيات، فقد كانت أعلى معدلات النمو المتوازن فى تاريخها هى فترة الخطة الخمسية الأولى للتنمية الاقتصادية والاجتماعية 1961 ــ 1965، وأن القطاع العام ساهم فى توفير حاجات المواطنين خلال سنوات حرب الاستنزاف وحتى حرب أكتوبر فى 1973، كما أنه أفرخ العديد من القيادات الاقتصادية فى مجالات متعددة، وهى التى هيأت للقطاع الخاص فرص انطلاقه بعد تبنى الحكومة المصرية سياسة الانفتاح الاقتصادى منذ سنة 1974. وإذا كانت مؤشرات الكفاءة فى القطاع العام هى أقل بكثير مما تستدعيه أصوله وموارده، فإن المسئولية لا تعود إلى مبدأ الملكية العامة فى حد ذاته، ولكنها ترجع بصفة أساسية إلى أسلوب الحكومة فى إدارته والذى حرمه من الاستقلال الضرورى لأى وحدة إنتاجية يفترض أن تحكمها الاعتبارات الاقتصادية وحدها بدلا من تحميلها أعباء الغايات الاجتماعية للحكومة. كذلك يضيفون أن نجاح الدول الصناعية الجديدة فى شرق آسيا وبعض دول أمريكا اللاتينية يرجع للدور الكبير الذى قامت به الشركات المملوكة للدولة فى المراحل الأولى لتنميتها. وأخيرا يدفع هذا الفريق فى وجه من ينتقدونه بأمثلة صارخة على فشل حالات الخصخصة فى مصر إما بسبب ما شاب بعضها من فساد، أو ما أدت إليه من تحول الشركات التى جرت خصخصتها عن نشاطها الأساسى، أو وقف المالك الجديد لنشاطها، أو لأخطاء استراتيجية مست قرار بيعها لمستثمر خاص. والأمثلة عديدة على ذلك فى صفقات عمر أفندى أو شركة شبين الكوم للنسيج أو فندق مريديان أو شركة المراجل البخارية.

• موقف الحكومة المصرية من القطاع العام

حسنا أن دعا الرئيس السيسى إلى توفير كل ما تحتاجه شركات قطاع الأعمال العام من موارد حتى تنجح عملية إصلاحها والتى ينبغى فى رأيه أن تكون الشغل الشاغل للحكومة حتى تنجح فى تخصيص ما يقرب من مائة وخمسين مليار جنيه ضرورية لتحقيق هذا الإصلاح. ولكن سيكون من الخطأ تفسير ذلك على أنه عزوف عن توجه تصفية القطاع العام الذى سارت عليه مصر بخطى مترددة أحيانا فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى وبخطى أكثر سرعة فى تسعينيات ذلك القرن والعقد الأول من القرن الحادى والعشرين. فالحكومة المصرية وفقا لما أعلنته من خطط هى فى طريقها لخصخصة ثلاث وعشرين شركة تبدأ بخمس منها تطرحها فى سوق الأوراق المالية فى الشهور القادمة. وهى كلها تقريبا من الشركات التى تحقق أرباحا فى القطاع العام، بل إن قطار الخصخصة سيلحق جزئيا الشركة الوطنية للأسمنت المملوكة للقوات المسلحة التى افتتح الرئيس السيسى مصنعها فى بنى سويف الأسبوع الماضى. ووفقا لمنطلقات هذا المنطق فإن الشركات التى تسهل خصخصتها جزئيا أو كليا هى الشركات الناجحة التى تحقق أرباحا، ومن ثم لا يتحمل مالكها المقبل أعباء جديدة حتى لمواصلة جنى أرباحها. ولذلك يمكن تفهم ما يدعو إليه الرئيس على أنه قد يكون إعدادا لشركات قطاع الأعمال العام لخصخصة ناجحة فيما بعد تأهيلها. وفى الواقع هذا هو ما سارت عليه عملية الخصخصة فى بريطانيا فى ظل حكومة مارجريت تاتشر التى عهدت إلى البنوك البريطانية بمسئولية إعادة تأهيل الشركات العامة قبل طرحها للبيع من خلال سوق الأوراق المالية فى لندن. كما أن قطاع الأعمال العام الذى تحدث عنه الرئيس قد تضاءلت أهميته فى الاقتصاد المصرى عما كان عليه حاله فى ثمانينيات القرن الماضى، فقدْ فقدَ احتكاره لأنشطة اقتصادية أساسية أصبح القطاع الخاص ينافسه فيها مثل البنوك وشركات التأمين وصناعتى الصلب والأسمنت وأنشطة التشييد وتجارة الاستيراد، بل لقد أصبح القطاع الخاص متواجدا فى قطاع الطيران والأنشطة البترولية. وانخفضت العمالة فى قطاع الأعمال العام إلى حدود الثلث عما كانت عليه فى عقود سابقة لتقف عند نحو مائتى وعشرة آلاف، وهبط عدد شركات القطاع العام إلى مائة وواحد وعشرين شركة بينما كان يصل إلى أكثر من ثلاثمائة شركة قبل بدء برنامج الخصخصة فى بداية التسعينيات. وفى قطاع الصناعة التحويلية لم يعد حجم الإنتاج الصناعى يتجاوز 21% من إجمالى إنتاجه ويستأثر القطاع الخاص فيه بما يقرب من أربعة أخماسه. وفضلا على ذلك فالقطاع الإنتاجى المملوك للدولة لم يعد مقصورا على الشركات المدنية التى يضمها قطاع الأعمال العام، بل إن الشق المتوسع فيه هو الشركات المملوكة للقوات المسلحة والتى يسمى أغلبها باسم الشركة الوطنية ومن أمثلتها شركة الأسمنت التى افتتح الرئيس مصنعها فى بنى سويف وكذلك شركات الرخام فى وادى الجلالة، وغيرها فى فروع اقتصادية عديدة فضلا بطبيعة الحال عن شركات الإنتاج الحربى. ولذلك على القائلين بأن القطاع العام ما زال هو المسئول عن تعثر التنمية فى مصر أن يدركوا التغير الهائل فى تكوين القطاع الإنتاجى المملوك للدولة والانخفاض الكبير فى حجم ودور قطاع الأعمال العام فى مصر.

• درس الصين لصانعى السياسة الاقتصادية لمصر

لا شك أن الذى لا يوضحه خطاب الرئيس أو إجراءات الحكومة بالنسبة لطرح قسم من أسهم الشركات المملوكة للدولة فى سوق الأوراق المالية هو تصور الحكومة لدور هذه الشركات. هل هو مجرد إحداث توازن فى السوق كما يقول الرئيس، أم أنه عبء مؤقت تنتظر الحكومة الوقت والأوضاع المناسبة للتخلص منه بالبيع للقطاع الخاص والشركات الأجنبية، أم أنها مصدر للدخل وللسيطرة تواصل الدولة من خلاله التحكم فى الاقتصاد حتى ولو سمحت بملكية بعض أصولها للقطاع الخاص دون التنازل عن سلطتها عليه.
ربما تسمح زيارة الرئيس القادمة للصين لمن يرافقونه من وزراء الحكومة استيعاب الدور القائد والرائد الذى ما زالت الشركات المملوكة للدولة تقوم به فى الصين على الرغم من الشوط الواسع الذى قطعته على طريق التحول الاقتصادى. الشركات المملوكة للدولة فى الصين تمثل 5% من إجمالى عدد الشركات فيها ولكنها تساهم بنحو خمس الناتج المحلى، وتملك 40 % من أصول القطاع الصناعى، وتوفر للدولة 30% من إيراداتها، وتحصل على قرابة نصف الائتمانات التى تقدمها البنوك الصينية. والقفزات الكبرى التى حققتها الصين فى المجال الاقتصادى تعود أساسا للشركات المملوكة للدولة.
ليس هذا هو حال الصين وحدها، ولكنه نموذج تجارب التنمية الناجحة فى شرق آسيا فى اليابان وكوريا الجنوبية. فى المراحل الأولى لانطلاق الاقتصاد تتولى الشركات المملوكة للدولة الدور الأساسى. وبعد أن تتجاوز الدولة هذه المرحلة يمكن لمجتمعها أن يقبل تخليها عن قسم كبير من انخراطها فى النشاط الإنتاجى مع احتفاظها بوظيفة تحديد التوجهات الرئيسية لنمو الاقتصاد. فلنتأمل هذا الدرس وكذلك تجربة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التى تعرفها الدول الصناعية الجديدة التى سارت على طريق الخصخصة بمعدل أسرع مثل البرازيل والأرجنتين والمكسيك قبل أن تحدد حكومتنا ماذا تريد تحديدا من القطاع العام.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved