أبعد من الاستعباط السياسي

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: السبت 19 سبتمبر 2009 - 9:16 ص بتوقيت القاهرة

 نحن مقبلون على مرحلة حاسمة فى مسلسل الاستعباط السياسى. وإذا كنت فى شك من ذلك فارجع معى إلى وقائع المؤتمر الصحفى الذى عقده وزير الخارجية المصرى مع نظيره الإسبانى يوم الثلاثاء الماضى 8/9، ذلك أن السيد أحمد أبوالغيط قال إن مصر ترفض معادلة التطبيع مقابل تجميد الاستيطان. لكنه توقع تحرك بعض الدول العربية باتجاه التطبيع إذا اتخذت إسرائيل «خطوة كبيرة» تجاه الفلسطينيين، تعكس استعدادها للتفاوض الجاد. وهو يشرح فكرته قال إن المطلوب اليوم موقف عربى مصمم على أن تتوقف إسرائيل بالكامل عن عمليات الاستيطان وفى القدس الشرقية، وأن تقبل بالبدء الفورى للمفاوضات مع الفلسطينيين، على أساس خريطة الطريق ومفهوم الدولة الفلسطينية، وفى هذا الصدد أشار إلى قرار مؤتمر وزراء الخارجية العرب فى اجتماعهم الأخير بالقاهرة الذى أبدى استعدادا «للنظر والبحث فى الإجراءات (التطبيعية) التى يمكن اتخاذها فى مواجهة خطوات إسرائيلية».

فى المؤتمر ذاته قال وزير الخارجية الإسبانى ميجيل موراتينوس إن بلاده تدعم جهود المبعوث الأمريكى جورج ميتشيل الساعية إلى إقناع إسرائيل بتجميد الاستيطان، وفى حال التزام الدولة العبرية بذلك، فإننا نرغب فى أن يكون هناك اتجاه من الدول العربية إلى تحسين علاقاتها مع إسرائيل، وكان الوزير الإسبانى قد صرح عقب اجتماعه مع عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية بأن الأوروبيين يتطلعون إلى أن تشهد الفترة المقبلة وضع أساس جيد للمفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين عبر وقف الأنشطة الاستيطانية، مضيفا أن هناك حاجة أيضا إلى جهد كبير لبناء الثقة (الحياة اللندنية 9/9).

قرائن الاستعباط فى هذا الكلام كثيرة. فوزير الخارجية المصرى يتحدث عن رفض القاهرة لمقايضة التطبيع بتجميد الاستيطان، وفى الوقت ذاته يتحدث عن إجراءات تطبيع عربية إذا اتخذت إسرائيل «خطوة كبيرة». وهذه الخطوة محصورة فى التجميد الذى يمهد للمفاوضات، الأمر الذى يثير السؤال التالى: ما هو المرفوض إذن؟

من دلائل الاستعباط أيضا أن السيد أبوالغيط تحدث عن «خطوة كبيرة تتخذها إسرائيل» لا تستهدف سوى الاستعداد للتفاوض الجاد. وهى كارثة إذا لم يكن الرجل يعلم أن الحكومة الحالية بتطرفها المعلن (الآخرون يضمرون التطرف) لا تستطيع أن تتخذ أى خطوة باتجاه الفلسطينيين يمكن توصف بأنها «كبيرة»، وستكون الكارثة مضاعفة إذا صدق أن إسرائيل مستعدة لأى «تفاوض جاد». أما أم الكوارث فتتمثل فى القبول بصفقة الاستيطان الذى تتلاعب به إسرائيل علنا الآن، مقابل بدء التطبيع وإطلاق المفاوضات، فهذا التجميد الموهوم الذى يصور بحسبانه إنجازا سياسيا، لن يتم، ولكن سوف يستمر التلاعب به، وهو فى نهاية المطاف رمزى ومؤقت.

بمعنى أنه يوقف الجديد لمدة تسعة أشهر فقط، ويضفى شرعية على ما تم إنشاؤه، رغم بطلانه من الناحية القانونية، والنتيجة المطلوبة هى أن تبدأ مفاوضات عقيمة لا أمل فيها، فى حين يلزم العرب أنفسهم بخطوات تطبيعية محددة، تمثل تنازلا عن آخر ورقة بيدهم فى دفاعهم عن القضية الفلسطينية، وهو ما يعنى أن الإسرائيليين سوف يكسرون آخر حاجز فى المقاطعة، وأن الفلسطينيين سيجلسون معهم على طاولة المفاوضات لكى يأكلوا الهواء!

فى تجل آخر من تجليات الاستعباط تحدث وزير الخارجية الإسبانى عن «تحسين» علاقات العرب مع إسرائيل، وعن الجهد الكبير المطلوب «لبناء الثقة»، وهو كلام لا يخلو من تدليس، فضلا عن أنه يتجاهل أن هناك احتلالا وحصارا وهدما لبيوت الفلسطينيين ونهبا لأرضهم. أعنى أنه يدعى العمى عن أن هناك قاتلا وقتيلا، وأن القتيل اعترف بحق القاتل فى الوجود، وجرم مقاومته حتى اعتبرها إرهابا، وقدم فى «المبادرة» تنازلا عن حق العودة، وكل ذلك لم يشفع له، ولايزال مطلوبا منه أن يقدم المزيد من التنازلات لكى ينال الرضا ويعزز الثقة.

لماذا لا يتحدث وزير الخارجية المصرى بمثل ما تحدث به نظيره التركى، حين قال إن المطلوب اتخاذ خطوات لتعزيز الثقة من جانب الإسرائيليين وليس العرب؟.. سأترك الإجابة لك، لأننى أخشى ألا يمثل الاستعباط تفسيرا كافيا لهذا الموقف.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved