التحرير قبل الأسلمة

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الأحد 19 سبتمبر 2010 - 1:04 م بتوقيت القاهرة

 فى الأخبار أن الشرطة التابعة لحكومة حماس فى غزة أغلقت لمدة ثلاثة أيام منتجعا ترفيهيا تم افتتاحه قبل شهرين بدعوى إقامة حفلات «ماجنة مختلطة». ونقل عن مسئول فى المنتجع أن عشرة رجال مدنيين مسلحين ملتحين، يعتقد أنهم من المباحث الجنائية، وصلوا إلى المكان قبل ساعة من موعد الإفطار، وطردوا العاملين والزوار الذين بلغ عددهم 150 شخصا.

وحسب الكلام المنشور فإن أولئك المدنيين أغلقوا منتجع «كريزى ووتر» دون أن يكون لديهم إذن من النائب العام يخولهم ذلك. وقبل ذلك بأسبوعين تقريبا (فى 8/8) نشرت صحيفة الحياة تقريرا عن معاناة سكان قطاع غزة بسبب ما أسمته محاولة أسلمة المجتمع بالقوة، من خلال فرض الزى الإسلامى على طالبات المدارس الحكومية، وتدخل المنسوبين إلى أجهزة الأمن فى خصوصيات المواطنين وحياتهم الاجتماعية.

أدرى أن ثلاثة أرباع الأخبار التى تنشر عن حماس فى غزة لا تذكرها بأى خير، وأنها عادة ما تكون مسكونة بالرغبة فى التشويه والكيد لأسباب مفهومة، وأن ثمة أطرافا فلسطينية وأخرى عربية ضالعة فى هذه العملية (لا تسأل عن الإسرائيلية). لكننى سمعت شهادات متواترة أيدت فكرة «الأسلمة» التى تسعى إليها عناصر فى حماس. وهو ما جعلنى أرجح صحة المعلومات التى وردت فى التقريرين اللذين سبقت الإشارة إليهما. من ثم فقد سمحت لنفسى بأن أقول كلمة فى الموضوع.

لا أريد أن أقلل من شأن ثبات حماس وشجاعة قادتها وصمودهم فى مواجهة الابتزاز والعدوان والحصار. فى ذات الوقت فإننى لا أشك فى غيرة عناصرها أو إخلاصهم فيما يسعون إليه. لكنى أزعم أن التوفيق خانهم فى فكرة فرض الأسلمة بقوة السلطة. وأذهب إلى أبعد زاعما بأن التحرير مقدم على الأسلمة، كما أن الأنسنة بمعنى أن يشعر كل إنسان بكرامته مقدمة على الاثنين.

قبل أن أشرح هذا المنطوق أستعيد القصة التالية: حين قام الصرب بعدوانهم على البوسنة، تدفق بعض اللاجئين البوسنيين على العاصمة الكرواتية زغرب هربا من البطش والترويع. وقدر لنا أن نزور أحد المعسكرات التى احتشد فيها أولئك اللاجئون. الذين كانوا خليطا من الرجال والنساء والأطفال. كنا مجموعة من العرب يتقدمنا الشيخ محمد الغزالى رحمه الله. التقينا ببعض اللاجئين، ونقل إلينا أحد المترجمين ما قالوه عن معاناتهم وهربهم من الموت الذى لاحقهم. وأثناء الحديث طلب أحد زملائنا السعوديين من المترجم أن يسأل إحدى السيدات البوسنيات لماذا هى ليست محجبة. سمعه الشيخ الغزالى فالتفت إليه مندهشا وقال بصوت مسموع، هذا من قلة الذوق وسوء الأدب. ثم وجه كلامه إلى صاحب السؤال قائلا: ألم يشغلك فى كل مأساة السيدة سوى أنها حاسرة الرأس، فتقرعها وتؤنبها بدلا من أن تهدئ من روعها وتطيب خاطرها؟

أتكئ على ملاحظة الشيخ الغزالى فى النظر إلى ما يجرى فى غزة بما يسمح لى أن أصوغ السؤال على النحو التالى: لماذا ينشغل بعض الغيورين فى حماس بلباس الناس وحياتهم الخاصة، فى حين أن القطاع محاصر بالاحتلال وحياة الناس فيه مهددة وعذاباتهم بلا حدود؟

إن إحدى المشكلات الكبيرة التى يعانى منها الإسلاميون الغيورون تتمثل فى خلل الأولويات واستعجال النتائج. وذلك راجع إلى سوء التقدير والنفس القصير. تشهد بذلك التصرفات التى تصدر عن البعض فى القطاع والتى سبقت الإشارة إلى بعضها. وفى ظل الظروف التى يعرفها الجميع فإن الأولوية لا ينبغى أن تعطى لقضية الأسلمة، وإنما لتحرير القطاع ومواجهة المخططات التى تدبر له. ويكفى للأسلمة فى الوقت الراهن أن يجسد المسئولون عنه قيم الإسلام بما يحولهم إلى نماذج تحتذى، دونما حاجة إلى قرارات إدارية أو تدخلات مباحث الشرطة الجنائية، علما بأن مدرسة الإسلام تعلمنا التدرج فى التكليف رفقا بالناس، والحكمة فى التعامل مع المنكرات، بما قد يستدعى فى بعض الأحيان قبولا مؤقتا بمنكر أصغر حتى لا يكون البديل عنه وقوعا فى منكر أكبر.

إن استخدام القرارات الإدارية والشرطة فى إحداث التغيير الاجتماعى حقق فشلا ذريعا فى تجارب الأسلمة التى نعرفها. ذلك أن التغيير فى هذا الجانب يتطلب نفسا طويلا، ويكون بالتربية والتثقيف وليس بإجراءات الضبط والتعنيف. وفى كل الأحوال فإن الحفاظ على كرامات الناس أصل ينبغى عدم التنازل عنه. ومعلوم أن الكرامة بنص القرآن من حقوق الإنسان بصرف النظر عن لونه أو عرقه أو صلته. ولذلك قلت إن الأنسنة مقدمة على الأسلمة. حيث من لا كرامة له يسقط عنه التكليف ولا تجدى معه الأسلمة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved