معركة الدستور المبكرة
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
السبت 19 سبتمبر 2015 - 6:55 ص
بتوقيت القاهرة
الكلام عن تعديل الدستور مجازفة بأى استقرار وكل مستقبل.
يكتسب أى نظام حكم قوته من سلامة القواعد التى تحكمه.
عندما تضطرب القواعد بقسوة فإن النتائج وخيمة.
الدساتير ليست مقدسة والتعديل فيها وارد غير أن الإلحاح على التعديل الآن ينطوى على تساؤلات لا يمكن تجنبها ولا تحمل تبعاتها.
بتعبير الرئيس فالدستور «رائع وطموح غير أنه يحتاج إلى وقت لتنفيذه».
رغم أية تحفظات على بند هنا أو هناك فإنه يستحق عن جدارة هذا الوصف.
ما الذى يمنع إذن إنفاذ نصوصه وقيمه؟
وما الذى يستدعى التشهير به فى حملات ممنهجة؟
بتعبير آخر للرئيس فهو «وضع بحسن نية والدول لا تدار بالنوايا الحسنة».
الأصل فى السياسة هو حسن النية وإلا تحولت إلى مؤامرة.
وحتى لا ننسى فإن نسبة الذين اقترعوا عليه بـ«نعم» (٩٨.١٪) دون تزوير وأن حكومات ما بعد (٣٠) يونيو اعتبرته درة وثائقها أمام العالم التى تسوغ الثقة فى خريطة المستقبل.
من حق مصر أن تتطلع إلى تأسيس نظام دستورى يليق بتضحياتها فى ثورتين.
الحملات الممنهجة على الدستور تضر بالرئيس قبل غيره وتنال من صورته على نحو فادح.
وردات الفعل الغاضبة تتجاوز رسائلها أية أوضاع شبه مستقرة شبه قلقة.
إنها أقرب إلى نذير لمن يقرأ الرسائل.
هو نفسه أقر حذف ما تحدث به فى جامعة قناة السويس عن الدستور «الذى صيغ بحسن نية» قبل بث الشريط المتلفز.
غير أن ذلك لا يكفى، فقد انطلقت الأخطار من مكامنها.
نفى التعديل الدستورى لابد أن يكون حاسما بلا لبس، وواضحا بلا تردد.
فمصر لا تحتمل أية مجازفات من مثل هذا النوع.
فى النفى تأكيد للشرعية الدستورية.
فلسفة دستور (٢٠١٤) تستند إلى قاعدتين رئيسيتين.
أولاهما، ضمان الحقوق والحريات العامة كما لم تتضمنها أية وثيقة دستورية أخرى فى التاريخ المصرى الحديث.
لم يكن ذلك خيارا ضمن خيارات أمام «لجنة الخمسين» التى صاغته قبل الدفع به إلى الاستفتاء.
هذه مسألة شرعية قبل أى شىء آخر.
فالدستور هو ابن شرعى لثورتى «يناير» و«يونيو».
الأولى دعت إلى نظام سياسى جديد يلتحق بعصره.. والثانية تبنت بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
نزع الدستور عن أصله الثورى هو عمل لقيط بكل معنى.
بأثر الجو السياسى العام فى الأيام الأولى لثورة «يونيو» أقرت الوثيقة الدستورية الجديدة نصا فريدا فى المادة (٢٢٦) بـ«عدم جواز تعديل النصوص المتعلقة بمبادئ الحرية أو المساواة ما لم يكن التعديل متعلقا بالمزيد من الضمانات».
كأن الذين وضعوا الدستور خشوا من التلاعب به من قبل جماعات المصالح التى تحبذ الاستبداد بقدر ما تكره «يناير».
لهذا السبب حصنت المادة نفسها بالتوازن بين السلطات بحيث لا تتغول إحداها على الأخرى بـ«عدم جواز تعديل النصوص المتعلقة بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية».
المعنى المباشر أن أى تعديل دستورى محتمل لا يسمح بالتطرق إلى تمديد فترات الرئاسة لأكثر من دورتين كل منهما لأربع سنوات.
المثير للالتفات أن لجنة الخبراء العشرة الذين أعدوا المسودة الأولى للوثيقة الدستورية الجديدة خفضوا صلاحيات الرئيس إلى حدود شبه رمزية.
كأنه متهم محتمل على نحو ما جرى لرئيسين على التوالى.
يحسب لـ«لجنة الخمسين» أنها نجحت بدرجة عالية من التوفيق فى صياغة نظام دستورى متوازن لا يمنع رئاسة الدولة من أية صلاحيات تحتاجها دون تغول على صلاحيات المؤسسات الأخرى.
وهذه مسألة تضمن استقرار نظم الحكم وسلامة الأداء العام.
لا يعقل قبل أى إنفاذ للدستور الكلام حول تعديله.
الحملة بتوقيتها وحججها تفتقد إلى أى حسن نية.
ولا يعقل أن برلمانا على قدر من الاحترام يوافق على أية تعديلات دستورية تنزع صلاحياته وتحيله إلى شبح يحوم فى المكان، لا بوسعه الرقابة على أعمال الحكومة ولا إصدار تشريعات تتسق مع المصالح العامة.
أكثر ما يدعو للاستغراب فى الإلحاح على فكرة لا لزوم لها أن شيئا فى البرلمان المقبل لا يزعج.
فى الإلحاح المبكر أزمة شرعية مبكرة.
الدساتير بعد الثورات هى جذر الشرعية.
ولا يصح بعد كل التجارب المريرة التى مضت تكرار الأخطاء نفسها.
التلاعب بالدساتير آفة مصرية قديمة.
الملك «فؤاد» ألغى دستور (١٩٢٣) أفضل نتائج ثورة (١٩١٩) واستبدله بدستور هزلى يؤكد حكمه المطلق عام (١٩٣٠).
كان ذلك داعيا إلى صدامات سياسية كبيرة أجبرته على إعادة الدستور الذى ألغاه إلى الحياة.
والملك «فاروق» استهواه التلاعب بالدستور حتى أفقد الحياة السياسية الثقة فيها وانتهت اللعبة بإطاحة أسرة «محمد على» كلها من على عرش مصر بعد ثورة (٢٣)يوليو.
طوال سنوات «جمال عبدالناصر» غلبت الشرعية الثورية ما عداها.
غير أنه فى نهاية مطاف أية ثورة تتبدى ضرورات الانتقال إلى الشرعية الدستورية.
المشكلة الرئيسية فى دستور (١٩٧١) أن نصوصه لم تحترم ورئاسة «أنورالسادات» لم تأخذه على محمل الجد.
فهو آخر الفراعين الذين لا يقيدهم دستور، كما قال بنفسه.
عدم احترام الدستور أغواه فى عام (١٩٨٠) إلى تعديلات جوهرية فيه حتى يتمكن من تمديد فترات حكمة إلى مالا نهاية.
بعد شهور قليلة للغاية اغتيل فى أكتوبر (١٩٨١) وبدت التعديلات التى أدخلها منحة مجانية لخلفه «حسنى مبارك» فى تمديد حكمه ثلاثين سنة متصلة حتى أطيح فى ثورة «يناير».
لأسباب كثيرة ومتداخلة سقط «مبارك» غير أن الاستخفاف بالنظام الجمهورى فى سيناريو التوريث كان نقطة الانفجار التى تجمعت فيها كل طاقات الغضب.
عدل باستخفاف بالغ فى دستور (١٩٧١) حتى استحالت المادة (٧٦) إلى خرقة دستورية تفسح المجال لتوريث الحكم من الأب إلى الابن.
بقوة الدولة تم له ما أراد من تعديلات لكنه استقطب طاقة غضب هائلة أفضت إلى النهاية.
على النهج ذاته استخفت جماعة الإخوان المسلمين بأى توافق محتمل حول دستور (٢٠١٢) ومضت فى فرض إرادتها وفق مصالحها.
كـ«مبارك» تماما كسبت فى صناديق الاقتراع وخسرت مستقبلها.
إذا لم تكن هناك قواعد دستورية تحترم فلا يمكن استبعاد أى احتمال.
وهذه مجازفة لا تحتملها مصر المنهكة التى تتطلع إلى الوقوف بالكاد على أرض شبه صلبة.