مكان سحرى اسمه المكتبة

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الأربعاء 19 سبتمبر 2018 - 10:50 م بتوقيت القاهرة

قلم رصاص، دفتر ومسطرة، أقلام تلوين، العلبة الكبيرة وليس الصغيرة لو سمحت، قلم ريشة وعلبة حبر لونه أزرق، تجليد شفاف لحماية الكتب والدفاتر. رائحة التراب والخشب عندما يحرك البائع الدفاتر على الرف، حماس يحاول الطفلان أن يضبطاه لكنه يكاد يقفز من عيونهما مع كل حركة من البائع. أريد المحاية الحمراء، يقول أحدهما بينما يقلب الثانى أقلاما بأشكال مختلفة بين يديه. تنهره الأم برفق فهى تفضل ما هو موثوق وعملى، ثم لا تلبث أن تسكت فى منتصف الكلام إذ تعرف تماما ملمس الأقلام الغريبة فى يد طفلة عمرها عشر سنوات كانتها يوما ما. تعطيه الخيار فيختار ما هو غريب وتوافق الأم.
***
للعودة إلى المدرسة نكهة أشبه بالسحر، هى حالة يختلط فيها شخص الأم كما كانت بأولادها فتعود طفلة تقف مع والدها فى مكتبة قديمة فى بلد آخر، تحاول أن تسيطر على حماسها تماما كما يفعل طفلاها اليوم، لكن كرة من الفرح تكبر وتتحرك داخلها مع كل أداة يوافق والدها أن يضعاها «على جنب»، بمعنى أن تنضم إلى لائحة ما سوف يدفع سعره فى آخر رحلة الشراء السنوية.
***
للعودة إلى المدرسة رائحة ورق فى كتاب التصقت صفحاته فى داخله ووجب فكها بالمسطرة برفق عند قراءته، ورائحة حبر لم ينشف فوجب النفخ عليه قليلا قبل طى الورقة. تتطاير حبات الغبار فى هواء المكتبة مع كل حركة، فترقص معها صور الأم قبل ثلاثين سنة، طفلة هى الأخرى تشد على يد والدها بإشارة منها أنها لم تختر لون المحاية بعد. يختفى الولدان من المكتبة حين تظهر الطفلة مع أبيها، وتطلب من البائع بشىء من الخجل أن يريها الدفاتر لتختار ما يعجبها.
***
للعودة إلى المدرسة صوت جدة لم تعد أصلا بيننا ولا علاقة مباشرة لها بالمدرسة. قد يكون دور الجدة هو مد العائلة بالمربى الذى لطالما أكلته الطفلة، فقد كانت ترسله الجدة إلى بيتهم وتضعه أمها فى الشطيرة فى الصباح، أم تراها كانت كرات اللبنة المغرقة بزيت الزيتون التى كانت الجدة تصنعها فى بيتها وترصها فى أوانى من الزجاج الشفاف فينتهى باللبنة الطاف فى شطيرة البنت ــ الأم؟ نعم هى اللبنة مع كوب من الشاى المحلى الذى تقاسمته الجدة مع الطفلة فى كل زيارة لبيت الجدة أيام المدرسة.
***
فى المكتبة القديمة يقف الطفلان مع والدتهما، هى تصر كل عام على زيارة هذه المكتبة بعينها وتتطلع إلى لقاء صاحبها الأنيق الرقيق. تطمئن عليه كل سنة فترى أنه صحته جيدة. يتذمر ولداها أحيانا ويطلبا زيارة مكتبة كبيرة وحديثة فترفض بشدة وتصفها بأنها بلا رائحة. لا يفهم الطفلان موضوع الرائحة لكنهما يتقبلان قرار الأم، لا سيما وأنهما يجدان فى المكتبة القديمة ما يريدان. أم تراهما ما زالا فى عمر يتقبل صرامتها بشأن بعض الأمور دون أن يناقشاها؟ لا يهم، فقد حصلت الأم على مخزون السنة من رائحة الورق والحبر وصوت أطفال فرحين، اقتنت خلال الزيارة لحظات ثمينة من الدفء وعادت إليها صور ظهرت بين الدفاتر لأشخاص لم ترهم منذ جلوسهم معا فى صفوف الدراسة.
***
فى عصر المعلومات الرقمية والعلاقات الالكترونية تسأل الأم نفسها كل سنة إن كانت المكتبات ستتوقف عن الحركة يوما. لقد قرأت أخيرا عن بعض التجارب التربوية التى لغى فيها المعلم تماما تعليم الكتابة باليد، مستعيضا عنها بتعليم الطباعة مباشرة، مبررا ذلك بسؤاله عن آخر مرة كتب فيها أحدهم رسالة بخط اليد.
***
تخيلوا أن تبتلع الكرة الأرضية المكتبات بأقلامها وغبارها إلى جوفها، تخيلوا ألا يقف طفل محتارا وسط الألوان، وألا يغلط فى حروف الكلمات فيتفنن فى إصلاح الخطأ دون أن ينتبه المعلم عند تصحيحه تمرين الإملاء! تخيلوا أن يذهب أطفال إلى المدرسة دون أن يحملوا مقلمة ترتطم الأدوات داخلها فنسمع صوت أقلام خشبية نعرف أنهم سيلونون بها دفاترهم. تثير الثورة الرقمية عندى هواجس حول اختفاء علاقة الإنسان بكل ما هو ملموس، وأخاف أن أعيش عصرا لا يذهب فيه الأطفال فى رحلة سنوية إلى مكتبة الحى لشراء الحبر والدفاتر.
***
أدرك طبعا محاسن التقدم العلمى وأهمية السرعة الرقمية فى تبادل المعلومات، لكن فى داخلى طفلة تخاف أن تختفى المكتبة برفوفها وصاحبها، تخاف أن يتوقف الناس يوما عن الحديث والنظر فى العيون، مستعيضين عن ذلك بالرسائل الصوتية والمكتوبة. أخاف أن أعيش عصرا لا أقلام خشبية فيه رغم إمكانيات تكنولوجية لخلق ألوان لم أرها فى حياتى.. إنما على شاشة وليس على ورقة رسم.
***
سوف أفترض أننى لن أعاصر فترة كلها رقمية، وأننى حتى آخر يوم فى عمرى سوف أمسك قلما من الرصاص أدون به ملاحظات على هامش الكتب التى أقرؤها، لن أقرأ كتابا على الشاشة ولن أبوح بأسرارى لهوامش باردة لا أمسك صفحاتها بيدى. سوف أفترض أننى سأستمر بتلوين أوراق بيضاء مع أولادى فنرسم عليها بتلقائية ونكتب خواطر وكلمات لن نمحيها. سوف أفترض أنهم، وحتى إنهاءهم للمراحل المدرسية كلها، سيزورون كل عام مكانا سحريا اسمه المكتبة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved