قاتل كما تقاتل المرأة

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 19 سبتمبر 2019 - 8:55 م بتوقيت القاهرة


انفجرت في وجهي عاصفة من التعليقات الساخرة فور أن رددت على بوست نشره على صفحته أحد مشاهير وسائل التواصل ممن يقدّر عدد متابعيه بعشرات الآلاف. كان البوست المُشْكِلَة عبارة عن صورة - لست متأكدة من صحتها - قيل إنه تم التقاطها فور اغتيال الرئيس الأمريكي چون كيندي في ٢٢ نوڤمبر عام ١٩٦٣ .
***
بدا الرجل مضرجا في دمائه بينما كانت زوجته چاكلين تلوذ بالفرار من السيارة التي أقلّتهما. وكتب صاحب البوست إياه متهكما على چاكلين التي قال عنها ما معناه إنها نفدت بجلدها وتركت زوجها من ورائها دون أن تحاول إسعافه. وعلى عوم صاحبنا عامت تعليقات كثيرة معتبرة أن ما فعلته چاكلين كينيدي إنما تفعله كل النساء في المواقف الصعبة، أي أنهن يهربن ويتركن أقرب الناس إليهن يواجهون الخطر بدون عون لهم أو مساعدة .
***
لأسباب مختلفة استفزني هذا البوست كما استفزتني أيضا التعليقات الكثيرة التي سلّمت بمضمونه بل وزايدت عليه في السخرية من جُبْن النساء وأنانيتهن. استفزني المزاح في حضرة ملَك الموت وأنا ممن يحبون المزاح ويتقنونه لكني لست ممن يحبون الهزل في موقف الجد، وليس أكثر جدية من لحظة قبض الروح وصعودها إلى بارئها. واستفزني هذا الحكم القاسي على النساء ووجدتني أستدعي تلقائيا لحظة اغتيال الرئيس السادات عندما أطلق القَتَلَة زخات الرصاص على منصة العرض العسكري في ٦ أكتوبر ١٩٨١ فاختبأ مَن اختبأ وهرب مَن هرب وواجَه مَن واجَه، والقصد أنه في ساعة الكرب العظيم تكون الفكرة بنت لحظتها ويكون التصرف من وحي الخاطر فلا دخل في ذلك للنوع ولا فرق فيه بين رجل وامرأة. في العادة لا أشارك في مساجلات مماثلة لكني تدخلت هذه المرة وكتبت أن الرجل لو تعرض لموقف مماثل كان سيتصرف نفس التصرف .
***
إلى هنا والأمر كان يبدو عاديا، رأي في مواجهة رأي، وكان عاديا أيضا أن يتدخل رجال لتصحيح فكرتي، أما ما لم أتوقعه أبدا فكان هو رد فعل النساء. قالت واحدة تعليقا على ردّي إننا نحن النساء تفزعنا القوارض وترهبنا الحشرات وأتبعَت ردّها بأيقونات كثيرة ضاحكة على سبيل الفكاهة، وقالت أخرى إن الرجال هم الذين يدافعون عنّا لأننا لا قِبَل لنا بالذود عن أنفسنا.. هكذا؟!، ودخل النقاش في سكة مختلفة عندما تطرقت ثالثة للشرف الرفيع الذي ليس يسلم من أذى حتى يراق على جوانبه الدم كناية عن حماية العِرض وتلك طبعا هي مهمة الرجل، وعلّقت رابعة وخامسة وسادسة تعليقات تشابهت في تأكيدها على ضعف المرأة وحاجتها الدائمة لمن يحميها، وساق أحد المعلقين الأفاضل نموذج الطفل الفلسطيني محمد الدّرة الذي اختبأ وراء أبيه أثناء انتفاضة الأقصى في عام ٢٠٠٠ وودّ أبوه لو تلقى عنه الرصاص لكن السلاح الإسرائيلي الجبان اغتال طفولة الابن وأرداه قتيلا إلى جوار أبيه، يريد أن يقول بذلك إن الرجل يحمي أهل بيته حتى إن كانت حياته هي الثمن. ومن بعد كررت تعليقات كثيرة الاستشهاد بنموذج محمد الدرّة، وكانت التعليقات لرجال وأيضا لنساء وكأنه بعد التفتيش في كل تاريخ النخوة العربية لم يتذكر المعلّقون إلا مشهدا واحدا فقط عمره تسعة عشر عاما هو مشهد محمد الدرّة .
***
هذه الصورة النمطية عن "الجنس الناعم اللطيف" كنت أتصور أن الزمن تجاوزها بكثير وأن المرأة لم تعد في حاجة إلى رجل يحميها بل أصبحت تحتاج إلى من يحميها من الرجل. تحول التحرش من ظاهرة فردية إلى وباء جماعي، ولم تعد المرأة تشعر بالأمان في الطريق والمواصلات والجامعة والعمل، فالذئاب المنفردة مطلقة السراح. والعنف المنزلي أصبح أمرا عاديا وعابرا للطبقات الاجتماعية، فهذا العنف يُوّجَه للموظفة الكبيرة كما يُوّجَه للعاملة الأجيرة، والهدف هو كسر نفس المرأة لتعرف في النهاية أنها لا شيء .. لا شيء بالمرة . ورغم كل ذلك ها هي مجموعة من النساء ما زالت تحصر الحماية في الرجل دون أن تسأل نفسها: الحماية من أي تهديد بالضبط؟. لم تسمع هؤلاء النساء عن الداعشيات اللائي يصنع منهن الرجال قنابل موقوتة تنفجر في مخفر أو سوق أو عرس تمهيدا ليوم يتفاوض فيه أمراء الحرب ويتصالحون فيما زوجاتهم وسباياهم تحت التراب. ولا هن سمعن عن عاملات لا تخيفهن الفئران والصراصير بل قد يتركن أطفالهن يلعبون بها لأنها أرخص أنواع اللعب. على المستوى الشخصي كانت لي تجربة تُروَى في هذا الخصوص، ففي أحد الأيام نبهتُ معاونتي المنزلية الطيبة إلى أن صغيرها -وكان مازال يحبو- يقبض على حشرة ويلعب بها فردّت عليّ بتلقائية مذهلة "مادام ساكت خلاص"!!. وبالتأكيد لم يبلغهن خبر الثائرات اللائي تتقدمن صفوف المتظاهرين بصدور مفتوحة للحرية والتغيير.. وأيضا للمجهول .
***
لكن بينما جاءت التعليقات النسائية محبِطة شاءت حفيدتي دون علم منها أن تجدد في نفسي الأمل، رفعت ترموس الماء، المكتوب عليه باللغة الإنجليزية عبارة "قاتل كما تقاتل المرأة"، وشرِبَت منه حتى ارتوت، فلم أدر بالضبط أكان ما شربته الحفيدة مجرد ماء أم إنه معنى بليغ. مَن كتب هذه العبارة جعل المرأة هي الأصل في القتال، وتلك مبالغة بالتأكيد لا تقل عن المبالغة في القول بأن الحماية مصدرها الرجل، لكن في رحلة البحث عن نقطة توازن في المجتمع لابد أحيانا من مقولات صادمة، وتلك المقولة واحدة منها. لاحظَت الحفيدة إعجابي بالترموس فعرضت أن تهديه لي عن طيب خاطر، لكني رفضت بإصرار فالحفيدة هي الغد وهي المستقبل وهي الآت، ولسوف تحتاج كثيرا لأن تعود إلى هذا الترموس الجميل لترتوي منه مرات ومرات فيداخلها شعور بالندية وتتصرف بكل الثقة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved