الأزمة الليبية والحاجة لمقاربة وطنية جامعة

يوسف محمد الصواني
يوسف محمد الصواني

آخر تحديث: الأحد 19 سبتمبر 2021 - 7:40 م بتوقيت القاهرة

تبدو الأوضاع فى ليبيا مرشحة للمزيد من عدم الاستقرار السياسى رغم ما تقوم به حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة والمجلس الرئاسى من خطوات وقفزات فى اتجاهات مختلفة وربما متناقضة. تسير البلاد فى طريق تبدو معالمه غير واضحة إن لم تكن معتمة وهو ما يطرح سيلا من الأسئلة حول الواقع وآفاق المستقبل القريب. وحتى إشعار آخر تبقى ليبيا البلد المكلوم الذى تكالبت عليه منذ 2011 قوى دولية وإقليمية من صنف الدول والفاعلين ما دون الدول، بينما صار الفاعلون المحليون وكأنهم كومبرادور يسعد بدوره فى ما تواجهه بلادهم من التحديات التى تطال وحدتها وكيانها ومستقبل أبنائها، ناهيك عن الهدر المتواصل بجنون لكل الموارد.

انتخابات 24 ديسمبر: هل العوائق دستورية وقانونية أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟
رغم ما يبدو من إجماع ودعم دولى لإجراء الانتخابات فى موعدها، فإن السياقات السائدة تعكس التوجس وعدم الثقة بين الأطراف وتضاؤل احتمالات جلاء القوات والمسلحين الأجانب من غرب أو شرق البلاد. وبينما اتفق ملتقى الحوار السياسى الليبى على أن أولى مهام السلطات التمهيد لإجراء الانتخابات وتوحيد مؤسسات الدولة، فقد اقتصر دورها على الكلام دون الأفعال بينما تؤكد مصادر مختلفة سعيها تمديد فترة ولايتها إلى عامين على الأقل. كما أن المجلس الرئاسى الذى أوكلت له مهمة تحقيق المصالحة الوطنية انشغل فى الزيارات الخارجية ولم يتمكن من ممارسة دور القائد الأعلى للقوات المسلحة ليبقى دوره محل غموض مع عجزه عن لعب دوره فى تحقيق السلام ووحدة المؤسسات لتحقيق مرور آمن نحو الانتخابات.
هكذا يبدو واضحا أن جوهر العوائق سياسى بالدرجة الأولى ويرتبط بالصراع الدائر بمشاركة خارجية منذ 2011 وأن ما قام به المجتمع الدولى عموما وهيئة الأمم المتحدة، خصوصا لم ينجح سوى فى تجنب معالجة العقدة الحقيقية للصراع مع إصرار غريب، لا يمكن سوى التشكيك فى النيات التى تقف وراءه، على حصر المسألة فى إبرام الصفقات وإجراءات بائسة لتقاسم السلطة بشكل يديم الصراع والهدر للموارد المادية والمعنوية خصما من أرصدة كيان الدولة والمجتمع الليبى معا.

لقد عجز ملتقى الحوار السياسى بأعضائه الذين اختارتهم الأمم المتحدة عن وضع قاعدة دستورية للانتخابات، فعاد مجلس النواب للمداولة وأعد مشروع قانون لانتخاب الرئيس مباشرة من الشعب على أن يقوم بوضع قانون مشابه لانتخابات البرلمان القادم لاحقا. لكن الديناميات والفاعلين المشار إليها فى منطلق الحديث هنا عادت لتفعل فعلها المتواصل منذ 2011 لتزيد المشهد إرباكا وتعزز التأزم. هكذا وضمن هذه الأجواء أصدر السيد رئيس البرلمان قانونا لانتخاب الرئيس أعلنت مفوضية الانتخابات استلامه تمهيدا للعمل الفعلى ورحبت به البعثة الأممية وعدد من الدول لكنه لقى ذلك معارضة عدد من أعضاء البرلمان لمخالفته اللوائح الداخلية، إضافة إلى اعتراض مجلس الدولة وأطياف وأطراف سياسية مختلفة. هكذا أضاف رئيس البرلمان حجرا آخر فى طريق الاتفاق على إجراء الانتخابات بل إن عددا من المراقبين اعتبروا هذه الخطوة موقفا مخططا له ليثير المعارضة والتصارع رغبة فى إعاقة إجراء الانتخابات. ومع احتمال أن يعيد مجلس النواب النظر فى القانون المذكور ليحظى بقبول كل الأطراف تبقى العقبة الكأْداء هى أن الأطراف الحالية تخشى أن تحيلها تلك الانتخابات إلى التقاعد الإجبارى، ولذلك تسعى باتفاق ضمنى بينها إلى العرقلة بحجج مختلفة. وبصرف النظر عن ذلك فإن هناك أسبابا للاختلاف بين الأطراف بدءا من الهدف من الانتخابات، وما إذا كانت تتضمن الاستفتاء على مقترح الدستور الدائم الذى أنجزته، وسط معارضة وشكوك متعددة، الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، أم إجراء انتخابات لهيئة تشريعية أو برلمان جديد، أم انتخاب رئيس للدولة وبرلمان جديد فى آن واحد، وانتهاء بالعلاقة بين السلطات وتحديد اختصاصاتها.
ومع أن إقرار مشروع الدستور قد يوفر للبلاد قاعدة دستورية ويقدم الأساس الذى يمكن إجراء الانتخابات وفقا له بما فى ذلك انتخاب الرئيس، فهو ينذر بخطر تجدد الصراع حيث المشروع لا تقبله أطراف ليبية كثيرة. كما أن تبنى هذا الخيار يعنى عمليا تأخير الاستحقاق الانتخابى المأمول. هكذا ستحرم البلد من حكومة منتخبة تستند على تفويض شعبى بما ينهى مرحلة الشرعية السياسية (الأمر الواقع) القائمة منذ انتهاء ولاية الهيئات المنتخبة سابقا فى 2016. كما إن القول بالذهاب إلى الانتخابات مباشرة وتجاوز الاستفتاء يجعل الخلاف يتعلق بما إذا كان من الأفضل إجراء انتخابات تشريعية فقط أم إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية معا، وهى خلافات تتصل مباشرة بالخلاف حول الاختيار بين النظامين الرئاسى والبرلمانى (مع ملاحظة أن مسودة الدستور تقترح نظاما رئاسيا).

ليبيا بين سرديات ومصالح الخارج وغياب الرؤية والسردية الوطنية الجامعة
ربما وصل عامة الليبيين مؤخرا إلى قناعة أن النخب التى تصدرت المشهد منذ انتخابات 2012 خصوصا لم تفلح فى إنجاز أى من مهام بناء الدولة أو المهام المتعلقة بالمصالحة واشتراطات نجاح الانتقال الديمقراطى وأن ما قامت به فعلا ليس سوى المقامرة بكل شيء ليبى تقريبا. ورغم ما يمكن أن تكون الانتخابات السابقة قد ولدته من بريق خادع فقد نجم عن الانتخابات المزيد من الصراع الداخلى والتدخل الخارجى. ولعل التجربة الليبية تضيف تأكيدا جديدا على فشل مقاربات حل الصراع التى تنتهجها الأمم المتحدة لتؤكد ما يقرره الكثيرون من دارسى الصراعات وبناء الدولة أن الانتخابات وكتابة الدستور فى ظروف مشابهة لما تمر به ليبيا ليست سوى عامل لاستدامة الصراع.

حكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسى لم يؤكدا من خلال الأفعال والأقوال سوى غلبة الخارج فى المعادلة الليبية فصارت أهم إنجازاتهما التجول بين عدة عواصم بينما المواطنة والمواطن يقف بدون دعم ومساندة سلطات بلاده فى مواجهة تحديات ليس أقلها فيروس كورونا الذى يقضى على حياة عديد الليبيين والليبيات كل يوم. قد تكون زيارات الحكومة المتواصلة لعديد العواصم منطلقة من فكرة أن الأطراف الخارجية تسيطر على وتوجه القوى الداخلية لشراء تدخلها الإيجابى وهذا أمر لا نقلل من شأنه. لكن هذا لا ينفى أنه أيضا يعبر عن مزيد الارتهان للخارج والمقامرة بموارد ليبيا بدعوى إطلاق الاقتصاد وتوزيع عقود إعادة الإعمار بطريقة تهدر الفرص الاقتصادية لليبيا قبل أن تهدر الفرص السياسية التى يمكن كسبها فيما لو كرس الجهد للقيام بعمل وطنى داخلى فى مقدمته المصالحة الوطنية الشاملة والاتفاق على المبادئ الأساسية للدستور الدائم تمهيدا لعقد اجتماعى جديد. ويبقى السؤال قائما حول دور هذه النخب والقيادات وعن قدرتها القيام بتحول لإعادة الوعى بالوطن والإحساس بالمسئولية؟ لا شك أن هذا يتطلب شروطا لكن ما قامت به الحكومة خاصة جهة تخصيص الحقائب الوزارية والوكلاء وتوزيع بقية المناصب وما اتخذته من سياسات اللحظة وقرارات جاء مخيبا للآمال. لذلك يمكن أن يخلص المراقب إلى أن هناك إصرارا على إحداث المزيد من الإرباك وعدم القدرة على مباشرة التغيير الحقيقى وهو ما يستديم الوضع الراهن أو يخلق نسخة جديدة عنه فقط.

هل سيتمكن الشعب الليبى من الحصول على بديل حقيقى لهؤلاء؟ أمام رفض أو عرقلة الانتخابات التى تقوم بها النخب الحالية فإن ولادة حالة وطنية جامعة مغايرة يبدو غاية بعيدة المنال. هكذا فإن أكثر ما يمكن الطموح إليه هو أن تنتج الانتخابات المأمولة بديلا مرحليا وحلا جزئيا يمكن أن يتحقق بفعل استمرار الضغط الشعبى مع ضغط خارجى معلن على الأقل أو تمارسه قوة عظمى تلبية لاعتباراتها الاستراتيجية. كل ما يمكن تأمله هو ألا تسبب الانتخابات ذاتها أو عدم قبول الخاسرين بنتائجها انطلاق موجة جديدة من الصراع والاقتتال تودى بما تبقى من الكيان الوطنى ووحدته السياسية والمجتمعية. أما أفضل ما يمكن توقعه فهو أن تسهل الانتخابات فرض حل سياسى مرحلى جديد وقد يحقق سلاما يسهم فى بناء جسور من الثقة يمكن أن تؤسس للحل الوطنى الشامل الذى تؤكد كل الدروس المستخلصة من تجربة العقد الماضى أنه يكمن فى مؤتمر سلام ومصالحة وطنية شاملة.

لكن ذلك يبقى أيضا حلما بعيد المنال لن يتحقق ما لم يتوافر طرح وطنى جامع بديل لن تصنعه النخب المنتقاة بعناية للمشاركة فيما يسمى بالحوار السياسى الليبى. كما لا تقود إليه أو تدعمه تلك المشاريع التى تقودها وتنفذها عدد من الدول عبر منظمات مختلفة تناقش وتنتج الأدبيات والسياسات التى تتناول كل ما يخص ليبيا لتسويقها كسرديات أصيلة ووحيدة للحالة الليبية لتعمق الصراع بتفتيت الحالة إلى قضايا متناقضة وتعبيرات عن أطراف يتم الزج بها وتوجيهها لمزيد من التصارع على مستويات تشمل البلديات والقبائل والجماعات الثقافية وما يمكن اعتباره المجتمع المدنى. لذلك فإن النخب الوطنية الحقيقة مطالبة بتحمل مسئوليتها التاريخية لسد الفجوة المصيرية. غياب العمل الوطنى الحقيقى والافتقار إلى الطرح البديل يجعل ليبيا كيانا وشعبا ووحدة أداة بيد الآخرين وسيستمر ذلك ما لم تقم النخب الوطنية بإنتاج سرديتها الجامعة بعيدا عن كل مقاربات الخارج.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved