لبنان وتحدى تكوين سلطة جديدة

ناصيف حتى
ناصيف حتى

آخر تحديث: الإثنين 19 سبتمبر 2022 - 8:25 م بتوقيت القاهرة

يتفق الجميع على أن لبنان ذاهب إلى الانهيار الكلى أو ما يسميه البعض الارتطام الكبير. ويرى كثيرون أننا وصلنا إلى الربع ساعة الأخيرة قبل حدوث ذلك. كما أن سياسة المراهم ومحاولات تربيع الدوائر والهروب إلى الأمام وتبادل التهم بين أطراف السلطة الحاكمة حول المسئولية عن ما وصل إليه لبنان لم تعد تجدى، فالكل مسئول. شهادات بعض الأطراف الدولية التى عملت أو تعمل على «الملف اللبنانى» تتفق حول توصيف وتحديد مسببات الأزمة أو الكارثة وحول طبيعة الخروج منها: لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) ذكرتنا أنه إذا ما أخذنا معيار الفقر المتعدد الأبعاد (ضمن ما يشمل الصحة والأمن الاجتماعى والخدمات العامة) فإن نحو ٨٢ بالمائة من اللبنانيين يعيشون ما دون خط الفقر. وقد زادت هذه النسبة منذ صدور التقرير. مقرر الأمم المتحدة الخاص بالفقر تحدث فى تقريره بعد زيارة بيروت إلى مخاطر الفروقات الاجتماعية الهائلة فى لبنان وتساءل أين أنفق القادة السياسيون الموارد فى عقود من الزمن..؟ «متجاهلين الحاجة إلى سياسات اجتماعية خاصة ما يتعلق بالرعاية الاجتماعية»، متهما السلطة بإغراق لبنان فى فقر مدقع عبر سياساتها.
تقرير مجموعة البنك الدولى الصادر هذا الصيف يتحدث عن فشل السياسات الكلية والهيكلية فى تقديم الخدمات الرئيسية فى القطاعات الأساسية مثل الماء والكهرباء والنقل والصحة والتعليم والحماية الاجتماعية. بعثة صندوق النقد الدولى أشارت، بعد التوصل إلى اتفاق مع الجانب اللبنانى (ما يعرف باتفاق الموظفين) الذى يهيئ للتفاوض لاحقا حول البرنامج الإصلاحى المطلوب تحقيقه من طرف لبنان للحصول على المساعدة من الصندوق، إلى ضرورة تعزيز الحوكمة والشفافية وزيادة الإنفاق الاجتماعى والاستثمارى. المساعدة التى اعتبرها أكثر من طرف عضو فى مجموعة الدعم الدولية للبنان أنها بمثابة التأشيرة الضرورية للحصول على الدعم الدولى، باعتبار أن لبنان قد قام بالإصلاحات المطلوبة من طرف الصندوق.
أشرنا إلى هذه الأمثلة للدلالة على ما تجب أن تكون عليه بالفعل الأولوية فى لبنان التى نختصرها بأولوية الإصلاح الهيكلى الشامل وبالطبع التدريجى. وللتذكير فإن الأزمة المالية بتداعياتها الكارثية تعكس بالأساس أزمة اقتصادية تتعلق بطبيعة النظام الاقتصادى اللبنانى وكيفية إدارته. وهى أزمة أيضا سياسية بامتياز تتعلق بطبيعة النظام السياسى القائم بالواقع على فدرالية من الطائفية السياسية التى تغذى وتتغذى على الزبائنية والمحاصصة وعلى شخصنة السلطة على حساب بناء وتعزيز دولة المؤسسات التى تقوم على الحوكمة الجيدة والشفافية والمساءلة. ما نشهده اليوم من نزيف وطنى، بسبب تفاقم هذه الأوضاع، تعبر عنه هجرة كبيرة من قطاعات أساسية واستراتيجية مثل الصحة والتعليم ومن الشباب الجامعى الباحث عن المستقبل، المستحيل فى بلده، ضمن الظروف القائمة، وكذلك تزايد هجرة مراكب الموت (الهجرة اللاشرعية) هربا من الموت البطىء كما وصفها أحدهم عن حق.
يحصل ذلك الذى هو نتيجة تراكمات كبيرة، عشية الربع ساعة الأخيرة من استحقاق دستورى أساسى (انتخاب رئيس للجمهورية) ومن تشكيل حكومة فى ظل حروب الاجتهادات الدستورية. الحروب التى تحاول أن تخفى اشتداد حدة الصراع فى لعبة «تقاسم الجبنة»، جبنة السلطة، أيا كانت العناوين التى يتغطى بها اللاعبون والعصبيات السياسية والهوياتية الكبرى التى توظف فى هذه المعركة. أضف إلى ذلك الرهان الدائم على انتظار الحل من الخارج مثل التوصل إلى تفاهم بين الأطراف الخارجية الفاعلة فى لبنان عبر حلفائها وأصدقائها أو الرهان على انتصار الحليف الخارجى على حليف الآخر. تاريخ لبنان السياسى يقدم الكثير من الأمثلة على لعبة الرهان على الخارج. صحيح أن تفاهم الخارج ولو بالحد الأدنى أمر يسهل بشكل كبير الخروج من الأزمة ولكن هنالك متغيرات أساسية تفرض عدم الرهان على لعبة الانتظار: انتظار الخارج مع نكران الجميع لهذا الواقع. فكما أشرنا سابقا، الظروف المأساوية فى لبنان المفتوحة على أسوأ أنواع التطورات لم تعد تسمح بسياسة تقوم على ترف الانتظار. لبنان اليوم بحاجة لمشروع إصلاح هيكلى شامل بغض النظر عن الوضع السياسى فى البيئة المحيطة بلبنان. كذلك يجب الإشارة إلى حالة التأزم وتداعياتها السلبية الكبيرة والمتعددة التى تعيشها مختلف بقاع العالم ومنها الشرق الأوسط بسبب المواجهات الدولية عبر الحرب الدائرة فى أوكرانيا وحول أوكرانيا. أضف إلى ذلك الأوضاع الاقتصادية الصعبة فى الشرق الأوسط التى لم تعد كما كانت بالأمس القريب والبعيد ولأسباب مختلفة، وقد زادت من حدتها الصراعات المختلفة الأوجه فى الإقليم وتغير الأولويات أيضا، كلها عناصر لا تجعل لبنان فى طليعة الأولويات الإقليمية.
المطلوب اليوم كشرط أساسى لولوج باب الخروج من المأزق الكارثى الذى يعيشه لبنان وبالتالى تلافى الانهيار الكلى، احترام الاستحقاق الدستورى كشرط ضرورى ولكن بالطبع غير كاف. المطلوب العمل على تكوين سلطة جديدة تلتزم بعملية إصلاح شامل: عملية تقوم على ثلاثية أولها وجود رؤية إصلاحية والتزام بوضع تلك الرؤية موضع التنفيذ وخريطة طريق تحمل جدولا زمنيا للتنفيذ. من أول تحديات السلطة الجديدة إطلاق هذه العملية المشار إليها والالتزام بتنفيذها. الخلافات السياسية الداخلية ظاهرة طبيعية وصحية طالما بقيت تحت سقف الدولة وطالما اتفقت على وجود مسئولية مشتركة لإنقاذ «المركب اللبنانى» من الغرق كما حذرنا دائما. فإذا غرق المركب لا سمح الله فالجميع خاسر. مسئولية بدء رحلة لإنقاذ اليوم قبل الغد، تبدأ عند اللبنانيين. بعدها نستطيع أن نطالب بالمساعدة من الأصدقاء دولا ومنظمات دولية، لأن استقرار لبنان المجتمعى والفعلى مصلحة للجميع وللاستقرار الإقليمى ولقيام لبنان، وهذه مسئولية وطنية أساسية. تحصين البيت الوطنى يستدعى أيضا بلورة سياسة خارجية ناشطة ومبادرة على الصعيدين الدولى والإقليمى: سياسة بانى الجسور فى الإقليم ومسهل الحوار وإطفاء الحرائق التى تطال شراراتها أول ما تطال البيت اللبنانى.
حان الوقت للتفكير «خارج الصندوق» كما يقال لإنقاذ الوطن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved