تبادل الأراضى يمهـد لتصفية القضية

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الثلاثاء 19 أكتوبر 2010 - 9:56 ص بتوقيت القاهرة

 لأن الأصل فى السياسة عدم البراءة، فينبغى أن نتعامل بقدر من الحذر مع زيارة وفد «الحكماء» لغزة هذا الأسبوع، وجولتهم المفترضة فى بعض العواصم المعنية بالموضوع الفلسطينى.

«1»


هؤلاء الحكماء يعدون من الشخصيات المحترمة، ذات السمعة المقدرة عالميا. وكان الزعيم الأفريقى نيلسون مانديلا قد جمعهم فى عام 2007، لكى يشكلوا عقلا منيرا يتعامل مع المشكلات الدولية. وإلى جانب مانديلا ضم فريق الحكماء الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر والسيدة مارى روبنسون رئيسة جمهورية أيرلندا السابقة والمفوض العام السابق لوكالة غوث للاجئين والأخضر الإبراهيمى وزير خارجية الجزائر السابق والمناضلة الهندية الغاندية ايلا بلات. وكوفى أنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة وديزموند توتو رئيس أساقفة جنوب أفريقيا وآخرين.

أثار انتباهى فى تحرك هذه المجموعة المحترمة أنهم قدموا إلى المنطقة فى توقيت خيم فيه الإحباط على الجميع، وبدا واضحا أن المفاوضات المباشرة لم تحقق شيئا للذين علقوا عليها شيئا من آمالهم، فى حين أن الحكومة الإسرائيلية ماضية فى مخططاتها الاستيطانية، غير عابئة بكل المطالبات التى دعتها إلى الإيقاف ولو المؤقت تلك المخططات لتهيئة الجو المناسب لمواصلة التفاوض مع الرئيس الفلسطينى محمود عباس. الذى يقف الآن عاجزا عن التقدم وعاجزا عن التراجع، وعاجزا عن القبول بالشروط الإسرائيلية التى أمعنت فى فضحه وإذلاله. حتى أصبحت تطالبه الآن بالاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية، بما يؤدى إلى طرد فلسطينيى 48، الذين لا يزالون يعيشون داخل إسرائيل مقابل التجميد المؤقت للاستيطان.

وسط هذا الجمود المقترن بالإحباط وخيبة الأمل، حلق فريق الحكماء فى أجواء المنطقة، وبدا وصولهم وكأنه طوق إنقاذ ألقى فى مياهها الراكدة، لكى يحرك الجمود ويوهم بأنه لايزال هناك أمل فى استمرار مسيرة «السلام». لا أريد أن أقطع بذلك، ولا أريد أن أسىء الظن بالفريق القادم، لكننى فقط أزعم أن توقيت وصول أعضائه يحرك الشكوك، التى لا تلغى المصادفة أو تنفيها.

إلى جانب توقيت الزيارة، أثار انتباهى واستوقفنى حوار أجرته جريدة «الحياة» اللندنية (فى 15/10) مع السيد الأخضر الإبراهيمى، العضو العربى الوحيد فى المجموعة. ومما قاله إن مجموعة الحكماء ستزور غزة والأردن ومصر وسوريا وإسرائيل، وهناك مسعى لترتيب زيارة لهم للقاء المسئولين فى السعودية. الأهم من ذلك قوله إن أعضاء الوفد يسعون إلى رفع الحصار عن غزة، ويؤيدون فكرة إقامة الدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، على أن تكون القدس عاصمة الدولة الفلسطينية، التى تقام على حدود عام 67، مع تبادل الأراضى بالتساوى.

«2»


وخزتنى الكلمات الثلاث الأخيرة، التى رددت فكرة تسربت فى ثنايا أحاديث بعض المسئولين الفلسطينيين أولا والعرب ثانيا، حتى كادت تصبح أحد معالم الحل المقترح. وبعد تسريبها بدأ الإسرائيليون يروجون أيضا لفكرة تبادل السكان. ذلك أن الذى يوافق على تبادل الأراضى، التى هى الموضوع الحقيقى للصراع، يسهل عليه تبادل السكان بعد ذلك. ورغم أن رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو لم يتحدث صراحة عن تبادل السكان، فإن دعوته إلى الاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية تفتح الباب على مصراعيه لترحيل 1.3 مليون فلسطينى فى داخل إسرائيل إلى ما وراء حدود الدولة الفلسطينية المقترحة. وقد تكفل السيد ليبرمان وزير خارجية إسرائيل بإسقاط القناع والتصريح علنا بأن بلاده، وهى تدعو إلى يهودية الدولة فإنها تتطلع إلى نقل ذلك العدد من الفلسطينيين إلى الدولة الفلسطينية، مقابل احتفاظ الدولة العبرية بمستوطنات الضفة الغربية، بدلا من السعى لحل يقوم على أساس الأرض مقابل السلام.

حتى الآن فإن السيد أبومازن يعارض فكرتى يهودية الدولة وتبادل السكان، لكنه يسكت على فكرة تبادل الأراضى، التى صرح أكثر من مرة بأنه لا يعترض عليها، محتجا بأن الفلسطينيين سيقيمون دولتهم على مساحة تعادل بالضبط تلك التى تم احتلالها فى عام 1967.

إذا كان رئيس السلطة الفلسطينية قد وافق على تبادل الأراضى، فليس مستغربا أن يجىء أولئك الحكماء، وقد تبنوا نفس الفكرة، معتبرين أنها إحدى ركائز الحل المقبول فلسطينيا وعربيا لتحقيق السلام فى المنطقة. وتلك خطوة خطرة إلى الوراء تمثل تفريطا فى الثوابت الفلسطينية ينضاف إلى التراجع الذى عبرت عنه قيادة السلطة وتبعتها بعض الدول العربية فيما خص التنازل حق عودة اللاجئين إلى ديارهم التى طردوا منها.

«3»


تبادل الأراضى الذى يمهد عمليا لتبادل السكان ليس طلبا تفاوضيا بريئا، كما تبدو صيغته المعلنة، ذلك أن إسرائيل تريد أساسا نقض القانون الدولى، الذى يعتبر الضفة وغزة أرضا فلسطينية محتلة. كما تريد أن تنقض القرار الاستشارى لمحكمة العدل الدولية القاضى بأن تلك الأراضى الفلسطينية محتلة يقينا ويجب الانسحاب منها، كما أن جدار الفصل العنصرى مخالف للقانون ويجب إزالته وتعويض الأضرار عنه.

هكذا، بضربة واحدة تريد إسرائيل نسف تلك القواعد القانونية الثابتة، وتحويل الجدار إلى حد أقصى لدولة فلسطينية ناقصة السيادة، وهو الأمر الذى نجحت فيه جزئيا مع مصر فى معاهدة السلام عام 1979، حيث قبلت بالانسحاب عسكريا بالكامل من سيناء، ولكنها أبقت السيادة عليها منقوصة بدرجات متفاوتة فى 3 قطاعات، حسب قربها من الحدود الإسرائيلية، وإذا ما استقر الأمر لإسرائيل على هذا الأساس، وقبل به الجانب الفلسطينى، فإن الخطوة التالية مباشرة والحاصلة الآن هى تفتيت قضية فلسطين إلى عناوين منفصلة مثل الحدود والمياه والاستيطان واللاجئين وغيرها اعتمادا على مبدأ تساوى حقوق فلسطين وإسرائيل فى الضفة. بحيث لا يبقى غير المساومة على توزيع تلك الحقوق حسب ميزان القوى لكل منها. وهو ما يفسر الضجة، التى أثارها موضوع تبادل الأراضى حين نشرت صحيفة ها آرتس (فى 17/12/2009) خريطة التبادل، التى عرضت على الرئيس الفلسطينى محمود عباس، وسمح له برؤيتها، وإن حرم من الحصول على نسخة منها ما لم يوقع عليها بالموافقة.

إن إسرائيل تريد تبادل أراضٍ احتلتها فى عام 1948 بأراضٍ أخرى احتلتها فى عام 1967، وهى لا تملك لا هذه ولا تلك، وهى تعتقد أنها بهذا الأسلوب تعطى الشرعية لضم الأراضى التى احتلتها إذا ما أسقط مالك الأرض حقه فيها وأهداها إليها، وذلك غير صحيح لأن الحيازة أو السيادة على الأرض لا تعنى ملكيتها، حيث تبقى الملكية حقا لصاحبها مهما طال الزمن أو تغيرت السيادة. لذلك فإن إسرائيل لا تملك الحق القانونى فى عملية تبادل الأراضى، إلا إذا اعترف صاحب الأرض بأنه حول ملكيتها لإسرائيل، وهذا ما لا يجرؤ عليه أى فلسطينى مهما كانت درجة خضوعه أو استسلامه أو حتى تآمره.

إن خطة التبادل تصادر الأملاك الفلسطينية المحصورة بين جدار الفصل العنصرى وخط الهدنة لعام 1949 بما فيها القدس الشرقية. أى أنه يعتبر حدود إسرائيل الجديدة هى مسار جدار الفصل العنصرى، وهذا يعنى ضم 319.830 دونم من الضفة إلى إسرائيل (الدونم ألف متر مربع)، إلى جانب ضم 68.720 دونم إلى القدس العربية كان قد صدر به قانون إسرائيلى فى عام 1967، بما مجموعه 438.550 دونم.

إسرائيل لها سوابق فى ممارسة الخداع من خلال تبادل الأراضى. ذلك أن اتفاقية الهدنة مع الأردن وقعت فى عام 1949، نصت على حق الأردن فى استبدال الأراضى المتنازل عنها لإسرائيل بأراضٍ أخرى فى الفاطور (قضاء بيسان) وفى قضاء الخليل.. مع تكفل إسرائيل بدفع تكاليف طريق جديدة بين قلقيلية وطولكرم، لكى تعيد الاتصال بينها. ولم يحدث شىء من ذلك بطبيعة الحال، فلم تدفع تكاليف الطريق ولا استبعدت أراضى الفاطور، ولا اكتسبت أراضى فى قضاء الخليل، وكانت المسألة كلها مسرحية وهمية انتهت بضم إسرائيل لأراضى الفاطور، التى كانت عربية عام 1949، وأصبحت جزءا من إسرائيل.

«4»


ماذا تقدم إسرائيل فى خدعة تبادل الأراضى؟
للدكتور سلمان أبوستة منسق مؤتمر حق العودة ورئيس هيئة أراضى فلسطين دراسة حول الموضوع ذكر فيها أن إسرائيل تعرض توسيعا لمساحة الضفة فى قضاء الخليل بمساحة 190 ألف دونم، فى أراضٍ كانت ولا تزال وستبقى جرداء، ولا توجد فيها سوى قرية عربية غير معترف بها إسرائيليا (أم الحيران). وليس فيها ماء ولا كشاطئ البحر الميت. وهو ما يعنى عمليا أن إسرائيل لم تخسر شيئا، وكسبت التخلص من قرية عربية. أما فى الجهة الغربية من قضاء الخليل فتعرض إسرائيل توسعا فى القضاء بمساحة 13 ألف دونم فى أرض جرداء أيضا، بحيث لا تتأثر أى من المستعمرات اليهودية فى المنطقة هناك.

أما غزة فلها قصة لا تقل عن نكبة الضفة الغربية. ذلك أن خط الهدنة الحقيقى، الذى وقعت عليه مصر فى عام 1949 يعطى قطاع غزة مساحة 555 كيلومترا مربعا، بزيادة 200 كم، عن المساحة الحالية، ولكن اتفاقا سريا وقع مع الحكومة المصرية فى عام 1950 تم بموجبه زحزحة خط الهدنة إلى الداخل فى مكانه الحالى بدعوى الحفاظ على الأمن ومنع المتسللين، وكان المقصود به منع الفلسطينيين من العودة إلى ديارهم خط الهدنة، والآن يأتى مشروع التبادل ليقضى بتوسيع قطاع غزة بمقدار 64.5 كم3 من أصل 200 كيلومتر سبق الاستيلاء عليها بالخداع والمفاوضات السرية التى لم يعلم بها الشعب الفلسطينى. وكما حدث فى قضاء الخليل، فإن توسيع قطاع غزة لا يعنى إزالة أى مستعمرة، وإنما يبقى كل المستعمرات التى بنيت على الأرض المسروقة فى عام 1950 فى مكانها. وهذا هو أسلوب إسرائيل التقليدى، الذى بمقتضاه تستولى بالقوة أو بالابتزاز على الاراضى، ثم تعرض على صاحبها إعادة جزء صغير منها مقابل إسقاط حقه الكامل فيها.

«5»


خطة التبادل الأراضى لم تعد سرا. فقد بات معلوما انها وضعت فى سنة 2008، نشرتها الرسالة الدورية لمؤسسة الشرق للسلام (FMEP). وكانت جزءا من مبادرة يوسى بيلين وياسر عبدربه التى تمت فى جنيف. وتبناها بعد ذلك الجنرال جيورا ايلاند فى معهد واشنطن، وهو الذى كان رئيسا لمجلس الأمن القومى الإسرائيلى فى الفترة بين عامى 2004 و2006، وقد اعتبرت حجر الأساس فى مشروع متكامل للسلام يقوم على تحديد الحدود على أساس التوسع الإسرائيلى فى الضفة الغربية، مقابل تراجع رمزى فى الخليل وقطاع غزة. كما يقضى بعودة رمزية للاجئين مع توطين الآخرين فى البلاد العربية. اما القدس فتتوزع حسب الأحياء ولكن السيادة تبقى لإسرائيل. وفيما يخص دولة فلسطين، فلا هى دولة ولا هى فلسطين. فهى منزوعة السلاح ومنقوصة السيادة، ولا سيطرة لها على الحدود وغور الأردن، ولا على القضاء فوق الأرض أو تحتها. ولإسرائيل الحق فى إنشاء وإدارة محطات للإنذار فوق أراضيها.

باختصار فإن فكرة تبادل الأراضى تعد خطوة على طريق تصفية القضية وإغلاق ملفها. ولا أعرف بأى منطق قبل بها «الحكماء» وتبنوها. لذلك فينبغى أن نعذر إذا شككنا فى توقيت تسويق الفكرة فى ظروف الاحباط الراهنة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved