مواسم الهجرة إلى المجهول

سلام الكواكبي
سلام الكواكبي

آخر تحديث: السبت 19 أكتوبر 2013 - 9:50 ص بتوقيت القاهرة

وكأنه قد كتب على السوريين أن يعيشوا فى حالة هرب دائم أمام محتليهم ومستبديهم.

فمنذ قرنٍ ونيّف، هاجر الآلاف منهم بحثا عن سلام وأمان وسعيا للنجاة من عسف السلطنة العثمانية. وكذلك هرب السوريون من التجنيد فى جيوش تحارب لتنقذ أنقاض الرجل المريض فى الأستانة. وقد ابتعد الكثير منهم باتجاه أمريكا الجنوبية واقترب آخرون باتجاه مصر. واندمجوا بشكل لافت وساهموا فى ازدهار اقتصادى وفكرى مشهود له.

وفى حقبة الانتداب الفرنسى، تراجعت الظاهرة لوجود مساحة نسبية من الحرية. ولكن استمرار الوضع الاقتصادى السيئ، نتيجة انعكاسات الحرب العالمية الثانية، أدى أيضا إلى موجات متفاوتة الأهمية من اللجوء الاقتصادى. وأتت «الدولة الوطنية» السورية سنة 1946 بالكثير من الآمال وتحققت بعض المشاريع الاقتصادية البارزة فى زمنها. سرعان ما تبددت هذه الحالة وعاد انعدام الاستقرار من خلال تعاقب الانقلابات ووصول الجيش إلى الحكم بصيغٍ مختلفة تجهض الديمقراطية الناشئة. وتميّزت الحقبة الأمنية الأشد، والتى بدأت سنة 1958، بهجرة واسعة هربا من القمع والترهيب، إضافة إلى الرعونة الاقتصادية والتى دفعت كل رءوس الأموال للهرب.

وفى سنوات «الرصاص»، فى سبيعينيات وثمانينيات القرن المنصرم، هرب الآلاف من الاستبداد والفساد. وكذا فعل اصحاب المال ممن رفضوا أن يحاصصهم رموز السلطة بنوعٍ من «السلبطة» الموصوفة. وجرى هروب جماعى محدود من مدن محددة تعرضت، كمدينة حماة مثلا، إلى التدمير الجزئى من قبل قوات السلطة.

أما فى الألفية الثانية، فقد عرفت البلاد حقبة من «الإصلاح»، بدءا من الاقتصاد الاجتماعى المافيوزى إلى الإفقار الممنهج، إلى تعزيز الآلة القمعية، وصولا إلى استخدام وسائل أكثر اقناعا بمصداقية هذا المسار، كالأسلحة الكيميائية أو الصواريخ الباليستية. وقد تمّ تتويج هذا «الإصلاح»، المسمّى تشفيّا بالـ«تحديث والتطوير»، بتدمير البنى التحتية وحرق الزراعات وتهجير داخلى للملايين وخارجى لاثنين أو ثلاثة من الملايين، لم يعد فى قدرة أى منظومة دولية أن تحسم فى احصاءاتها عنهم.

•••

يعانى السوريون حاليا من تهجيرٍ قسرى لا يضاهيه فى ذاكرة العرب إلا ما حصل للفلسطينيين فى نكبتهم الأولى. وتعددت أشكال اللجوء، ولكنّ أعمّه وأشمله هو لقليلى الحيلة اقتصاديا. مما أدى إلى نشوء مخيمات ترمز إلى أن الحرب على السورى، الممتدة منذ بدء الامنوقراطية، تتجاوز فكرة تخريب المكان إلى عملية تدمير الإنسان. وخضع اللاجئون إلى صنوف متفاوتة من المعاملة على امتداد الدول «الشقيقة» و«الصديقة». وكما هى العادة، استغلّت قضيتهم سلبا من قبل الأحزاب والجماعات السياسية ذات المستوى الأخلاقى والإنسانى المتدنى فى بلاد اللجوء. حيث أصبحوا يُحمّلون مسئوليات كل أزمات هذه البلاد من اقتصادية إلى سياسية.

وقد بلغ سوء الاستقبال العربى «الشقيق»، وضيق المجالات المتاحة للذهاب شرعيا إلى الغربى «الصديق»، إلى لجوء عديدٍ منهم، وخاصة الشباب، إلى قوارب الموت التى تحملهم من شواطئ بلدان عربية تتشارك سلطاتها مع مافيات العبور لتدعيم الدخل «الوطنى» الخاص والمساهمة فى إعادة توزيع «الريع» عبر حيوات السوريين والسوريات.

أصبحت شواطئ أوروبا الجنوبية تذخر بالجثث المنتشلة من أعماق البحار لمئات من السوريين الذين تقاذفتهم الضمائر المفقودة وأمواج المتوسط التى عرفت خلال السنوات العشرين الأخيرة غرق أكثر من عشرين ألف مهاجر «غير شرعى»، كانت غالبيتهم من دول أفريقيا. ويأتى السوريون اليوم لينضموا إلى راكبى عباب الحقارة الإنسانية والتراجع الأخلاقى الموصوف، أولا، لسلطتهم المسئولة قطعا عن وصولهم إلى هذا الخيار، وثانيا، إلى ما يسمى بالمجتمع الدولى الذى لم يجد الوقت أو الإرادة للمساعدة الفعلية، وليس التصريحية، فى حل مقتلتهم المستمرة، وثالثا، لبعض ممن فى المعارضة لا يجد الوقت والجهد إلا للانتقاد أوالعجز، بعيدا عن العمل الصامت غير المصوّر فيسبوكيا.

إن الصيد فى البحر يجب أن ينحصر بالأسماك وليس بجثث البشر. فقد حملت القوارب الآلاف فى أقصى شرق آسيا فى سبعينيات القرن المنصرم (Boat people)، وهى مازالت تحمل الآلاف من افريقيا السوداء أو السمراء. وهى اليوم، فى القرن الواحد والعشرين، تحمل، وستحمل غدا، الآلاف من السوريين إلى حتفهم أو إلى خلاصهم المتوّهم أو المؤقت. الأمواج تتقاذفهم والمواقف السياسوية ترمى بهم. فى الحالة السورية، يجب أن يتم ادراج ما يحصل ضمن جرائم الحرب وليس ضمن نتائجها فحسب. إن من مهّد لها ودفع اليها هو مجرم حرب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved