لماذا انتفض اللبنانيون من جديد؟

رابحة سيف علام
رابحة سيف علام

آخر تحديث: السبت 19 أكتوبر 2019 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

 اشتعلت المظاهرات الغاضبة فى جميع أنحاء لبنان دون دعوة من أى حزب أو فريق سياسى، إذ نزل المتظاهرون بشكل عفوى فى وسط بيروت كما فى ساحات المدن والبلدات الكبرى. هناك أسباب كثيرة يمكن أن تفسر النزول العفوى للمواطنين للاحتجاج على الأداء الحكومى الهش خاصة فى ملف الاقتصاد. تحاول الحكومة اللبنانية الائتلافية التى تكونت مطلع هذا العام تمرير موازنة عام 2020 والاتفاق عليها قبل إرسالها إلى مجلس النواب للمصادقة عليها. ولكن الحكومة فى مأزق لوجود عجز كبير فى الموازنة يستلزم إجراءات تقشفية خاصة أن ميزان المدفوعات اللبنانى أصبح بالسالب منذ عدة سنوات والاحتياطى الدولارى أصبح غير كاف لتثبيت سعر الليرة اللبنانية أمام الدولار. هذا الأمر سبب هلع فى الحياة الاقتصادية، لأن الاقتصاد اللبنانى يعتمد فى معاملاته بنسبة تفوق 75% على الدولار، ولذا عندما يهتز سعر الليرة أمام الدولار تقل الثقة فى الاقتصاد وتتعطل المعاملات. هذا ما حصل بالضبط عند اختفاء الدولار من السوق بالسعر الرسمى وأصبح متاحا بأسعار أعلى، إذ هدد ذلك بتعطيل كل الصفقات التى كانت مبرمة قبل تغيير سعره. مما عزز الإضرابات فى عدة قطاعات تعتمد بالأساس على الدولار حيث رفضت تقديم خدماتها وسلعها إلا عندما يدفع المواطن بالدولار مثل قطاع البنزين وقطاع الأفران والخبز والقطاع الدوائى. بالتزامن مع ذلك قررت الحكومة البدء فى خطة لزيادة موارد الدولة من أجل سد العجز، ورغم أن خطة الإنقاذ الاقتصادية التى تم الاتفاق المبدئى عليها ضمن لقاء اقتصادى رعاه رئيس الجمهورية فى قصر بعبدا الشهر الماضى، تضمنت نقاطا كثيرة، إلا أن وزير الاتصالات فى الحكومة اللبنانية قرر البدء بفرض رسوم تمس الأغلبية العظمى من المواطنين وهى رسوم على المكالمات الصوتية لتطبيق الواتساب.
تضمنت الخطة الإنقاذية عدة إجراءات منها مثلا فرض ضرائب على الودائع البنكية التى تتخطى 50 ألف دولار، وأيضا اعتماد مبدأ المناقصات الشفافة فى شراء الكهرباء بدلا من تمرير هذه الصفقات بالتلزيم بالأمر المباشر الذى ينطوى على فساد ومحسوبيات وعمولات تستفيد منها الطبقة الحاكمة. وتضمنت الخطة الإنقاذية أيضا تجميد أية زيادات أو علاوات على أجور موظفى الدولة لمدة ثلاث سنوات من أجل تخفيض عجز الموازنة على أن يتم صرف هذه العلاوات بعد مهلة السنوات الثلاث بأثر رجعى عندما يحقق الاقتصاد بعض النمو الذى يسمح بهذه الزيادات. فضلا عن زيادة ضريبة القيمة المضافة لسلع الرفاهية كالسجائر والكحول والاتصالات الخلوية. ورغم تعدد هذه الإجراءات التقشفية اختارت الحكومة أن تبدأ بتطبيق فرض رسوم على الاتصالات، التى تفرض دون تمييز بين غنى وفقير، مما يجعل وطأتها على الفقير أكبر. رسوم الواتساب استفزت المواطنين للنزول إلى الشوارع بكثافة ولكن بالتأكيد الأمر لا يتوقف عند الواتساب.
***
يعانى لبنان من مشكلة زبائنية وفساد مزمنة إلى جانب محاصصة طائفية تتعزز فى مواسم الانتخابات على وجه الخصوص. خلال الانتخابات النيابية العام الماضى وعد أغلب الزعماء أتباعهم ضمن طوائفهم بوظائف وعقود فى جهاز الدولة أضافت المزيد إلى الأجور التى تدفعها الدولة لموظفيها ضمن الميزانية العامة. وهو ما عزز العجز فى الموازنة إلى جانب خدمة الدين العام الثقيلة جدا، وأيضا الهدر الكبير فى الميزانية خصوصا فى قطاع شراء الكهرباء الذى يتكلف وحده 2 مليار دولار سنويا. من المفترض أن الحريرى رئيس الحكومة كان قد حصل للبنان فى مؤتمر سيدر بفرنسا على تعهدات من عدة دول صديقة للبنان بتدفقات مالية كبيرة تصل إلى 11 مليار دولار من خلال منح وقروض ميسرة واستثمارات أجنبية تساعد على تحريك الاقتصاد واستعادته للنمو، ولكن تعطيل البرنامج الإصلاحى التقشفى الذى كان شرطا لهذه التدفقات المالية أدى إلى تجميد الصفقة بالكامل. من جهة ثانية، يتعرض القطاع المصرفى لضغوط كثيرة بسبب عقوبات أمريكية تم إقرارها خلال الشهور الأخيرة على 7 من قيادات حزب الله بينهم نائبان فى مجلس النواب، إذ هددت واشنطن أخيرا بتوسيع العقوبات لتشمل أيضا حلفاء حزب الله وليس فقط قياداته. أدى هذا الأمر إلى اضطراب بالنظام المصرفى الذى يخشى أن يوصم بالتعامل مع حزب الله وبالتالى يتضرر ماليا من العقوبات نظرا لاعتماد النظام الاقتصادى على الدولار فى تعاملاته. مشكلة العقوبات عقـدت التحالف الهش الذى خلق الحكومة فى مطلع هذا العام، حيث كان من المتفق عليه ضمنيا أن يعهد الملف الأمنى والدفاعى لحزب الله وحلفائه، فيما يعهد بالملف المالى للحريرى وحلفائه وفقا لخطة إصلاحات مؤتمر سيدر، ومما أعطى بعض الاستقرار لهذه الصيغة مسألة أن تيار الرئيس عون كان حاضرا فى كلا الملفين. ولكن مسألة العقوبات الأمريكية خلطت الأمنى / الدفاعى بالمالى عندما أصبح اقتصاد حزب الله الخفى مستهدفا بالعقوبات الأمريكية، مما عقد المسألة وعطل إقرار الموازنة وصعد من الأزمة الاقتصادية.
***
الهبة الشعبية التى تجتاح لبنان الآن تتميز بشعارات علمانية مدنية لا يطغى عليها أى تأثير طائفى بل تركز على الجانب الاقتصادى والمالى، حيث تطالب بتعديل نظام الضرائب لتخفيف عبء المعيشة عن المواطنين وإلغاء الإعفاءات الضريبية للكيانات الاقتصادية العملاقة ومنها شركات مملوكة لعائلة الحريرى. كما رفع المتظاهرون أيضا مطالب راديكالية إلى حد كبير مثل استقالة الحكومة والرئيس ومجلس النواب الذى أنهى بالكاد عاما ونصف من مدته. وطالبوا كذلك بمحاسبة المسئولين عن سنوات هدر الأموال العامة ومحاسبة الفاسدين فى جميع المؤسسات العامة ورفع الحصانة عن البرلمانيين والوزراء والكشف عن سرية حساباتهم البنكية من أجل محاسبتهم على ما راكموه من ثروات. تميزت أيضا المطالب الشعبية بالسمو على الانتماءات الحزبية وانتقدت بشدة الأحزاب التى تمثل الطوائف المختلفة سواء فى مجلس النواب أو الحكومة أو رئاسة الجمهورية واعتبرتهم جميعا مشاركين فى نهب الأموال العامة وقوت الشعب. ولعل حرائق الغابات الأخيرة وتحرك المجتمع المدنى والمتطوعين لإطفائها فى ظل عجز الدولة، قدم سببا إضافيا لإنعاش روح التضامن الأهلى العابر للانتماءات الضيقة والخطابات الطائفية، بما سهل الحشد العفوى لهذه المظاهرات.
المشكلة الحقيقية أن استقالة الحكومة الحالية لن تحل المعضلة، ورغم المآخذ الكثيرة على خط الحريرى الاقتصادى، إلا أن رحيل الحريرى لن يحل الأزمة لأن حلول الملف المالى كانت دوما تخرج من جعبة فريق الحريرى الذى يتمتع بثقة الأوساط المالية والمجتمع الدولى. من جهة ثانية، إذا استقالت الحكومة بالفعل، فمن غير المتوقع أن يتم تشكيل حكومة أخرى سريعا، لأن هذه الحكومة استغرق تشكيلها نحو السبعة أشهر للوصول إلى صيغة توافقية لتوزير معظم الكتل النيابية الفائزة فى الانتخابات. يضاف إلى ذلك أنه إذا استقال الحريرى وجاء رئيس حكومة سنى محسوب على حزب الله فإن هذا سيعقد الوضع المالى أكثر فأكثر وسيعزز من خنق الاقتصاد بالعقوبات الأمريكية بشكل أعمق، وهنا لن ينفع لبنان شراكته مع إيران، بل ستجره الأخيرة إلى المزيد من العزلة الدولية.
لبنان الآن مفتوح على احتمالات كثيرة، فإما يشكل الضغط الشعبى حافزا إضافيا لمختلف فرقاء الحكومة للتنازل عن بعض مكاسبهم الزبائنية فى موازنة عام 2020 وتقديم إصلاحات اقتصادية لا تنطوى على فرض ضرائب جديدة، فينتظم الاقتصاد قليلا. وإما يتمسك كل فريق بمكاسبه ويرفض التنازل عنها فيؤدى ذلك إلى تعقيد الوضع ودفع الشارع إلى مزيد من الحشد والتمسك برحيل الطبقة السياسية ككل. فيما يبدو رحيل الطبقة السياسية مرتبطا بإعادة النظر باتفاق الطائف أو على الأقل تنفيذ بعض بنوده التى لم تر النور أبدا مثل مبدأ إلغاء المحاصصة الطائفية فى مجلس النواب، وكلها إجراءات إصلاحية جذرية لا يتوقع دخولها حيز التنفيذ فى ظل الوضع المتأزم الحالى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved