آحاد الوحدة.. التى أمقتها


ياسمين بستانى

آخر تحديث: الإثنين 19 أكتوبر 2020 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

لفتنى منذ سنوات فى إحدى المكتبات ديوان شعر بعنوان «نحن الذين نخاف أيام الآحاد». لم أشتر الديوان ولم أتصفحه لكن عنوانه علِق فى ذاكرتى، أو هكذا كنت أظن.. الغريب أن العنوان الذى علِق فى ذاكرتى كان «نحن الذين نكره الآحاد». وهى العبارة نفسها التى رددتها فى نفسى كل يوم أحد أكون فيه وحيدة، أى فى الغالبية العظمى من أيام الآحاد فى حياتى. فتشت بداية عن الديوان عبر العبارة كما أتذكرها، فلم أجد شيئا. فعدت وفتشت عن اسم الكاتبة التى أتذكر أن بينى وبينها العديد من الأصدقاء المشتركين، فوجدت أننى عن غير قصد استبدلت الخوف بالكره.
***
استغربت فى البداية وتساءلت عما دفعنى إلى التلاعب عن غير وعى بالكلمات. لكن سرعان ما وجدت الجواب: فالخوف بالنسبة إلى هو دائما خوف من المجهول.. لكن يوم الأحد تحديدا أعرفه جيدا، وأعرف ما ينتابنى خلاله، وحفظت عن ظهر غيب التكتيكات التى أعتمدها للتخفيف من وطأة هذا النهار الذى أكرهه.
***
فأنا لطالما كرهتُ هذا اليوم منذ نعومة أظفارى، فهو فى الطفولة كان يوم تجتمع فيه العائلة الكبيرة وأكون فى خلاله محاطة من كل حدب وصوب بأقارب كنت أنفر من معظمهم. فى مرحلة لاحقة، أصبح ينذر بقدوم الاثنين والعودة إلى مدرسة أو جامعة كنت أمقتها. وبعد ذلك، أصبح يُنذر بأسبوع ثقيل آخر أتخبط فى خلاله.
***
يوم الأحد هو اليوم الذى تُرخى فيه الوحدة بثقلها على. هو اليوم الذى أتذكر فيه خيباتى الشخصية. لم أفلح فى تكوين صداقات، ولا فى تكوين أسرة، لم أفلح فى شىء سوى العمل والإفراط فى الانطواء على الذات.
***
لا أكترث عادة لهذه الخيبات خلال الأيام الأخرى، أو بالأحرى لا تطفو على سطح حياتى. فالمدينة تكون فيها تعج بالناس، وأخرج منذ الصباح لأقضى حاجياتى فى أنحائها ولأعمل فى مقاهيها. كل ذلك وأنا وحدى، لكن حيوية المدينة تجعلنى أنسى هذه الوحدة. وجدت لنفسى روتينا، أعمل لساعات فى مقهى أو اثنين، ومن ثم أقصد منزل أختى حيث أتابع العمل وأتوقف من حين إلى آخر للعب مع أطفالها. وعندما أعود إلى منزلى، أذهب إلى السرير مباشرة، أقرأ لساعة أو ساعتين وأنام. لأستيقظ فى اليوم الثانى، وأكرر السيناريو نفسه.
***
أما الأحد، فالوضع مختلف. تفرغ المدينة من ساكنيها، والطرقات من زحمتها، والمقاهى من روادها وتلتهى أختى بعائلتها، فأجد نفسى وحيدة فى الأماكن التى أرتادها. أمتنع عن زيارة المجمعات التجارية أو المطاعم التى تقصدها العائلات ليس تفاديا للزحمة وإنما كيلا أكون الوحيدة الوحيدة. حتى فى المقاهى التى يقصدها خلال أيام الأسبوع أمثالى ممن يعملون عملا حرا وليس لديهم مكاتب، قلما تجد فيها شخصا وحده يوم الأحد... إلا أنا.
***
قبل عقد من الزمن كنت أتخفى فى هذه الحالة خلف كتاب أو جريدة أو أنهمك فى حل كلمات متقاطعة أو تدوين خواطر فى دفتر. لكن الحاسوب المحمول والهاتف الذكى حلا مكان كل ذلك. أمضى ساعات لا أفعل شيئا ذا قيمة سوى التنقل بين الشاشتين. أقرأ مقالة من هنا وخبرا من هناك، أفتح إحدى الألعاب على هاتفى، أو أعمل.
***
مع أنه ما من داعٍ لأن أعمل يوم الأحد، وأن فى وسعى أن أنظم وقتى بحيث أرتاح فى ذلك اليوم، إلا أننى اعتدت فى السنوات الأخيرة، على تخصيص هذا اليوم لأنجز كل أعمالى المتأخرة، وأنظم ملفاتى. أترك بعض الملفات عن قصد لأعمل عليها، كى أملأ الفراغ الذى يخنقنى. أحيانا، وكما حصل اليوم، يخوننى عملى وأنجز كل الملفات المتأخرة فيهبط الفراغ فجأة دون سابق إنذار...
***
ومن بين الحيل الأخرى التى أستعين بها لأخفى وحدتى وأخففها، ممارسة الأنشطة الترفيهية القليلة التى تعنينى فى خلال الأسبوع وليس فى العطلة. ففى الصيف مثلا، لا أرتاد الشاطئ فى نهاية الأسبوع، أتذرع لنفسى بأننى أكره الازدحام والاختلاط، وإنما السبب الحقيقى أنه فى أيام العمل، يمكننى أن أجد بعض أقرانى الوحيدين موزعين حول المسبح أو على الشاطئ، فأضيع بينهم.
***
حيلة إضافية لجأت إليها لأوهم نفسى أننى منشغلة فى الآحاد، هى أن أؤجل الاهتمام بشؤون منزلى وحاجياته إلى ذلك اليوم. فأصبحت آحادى على النحو التالى، أخرج صباحا لتناول الإفطار والقهوة فى واحد من المقاهى الفارغة من روادها، ثم أذهب لأعمل عدة ساعات فى مقهى آخر وأتناول الغداء قبل المغادرة، ومن ثم أذهب لشراء حاجياتى منزلى وبعدها أعود إلى منزلى لترتيب هذه الحاجيات فيكون النهار قد انقضى.
تلك هى آحاد الوحدة... التى أمقتها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved