سيد أبو داود.. وداعا

ناجح إبراهيم
ناجح إبراهيم

آخر تحديث: الجمعة 19 نوفمبر 2021 - 8:45 م بتوقيت القاهرة

 

كانت زوجته الصحفية والكاتبة الشهيرة د.ليلى بيومى تقول عنه: كنت أتنفس من خلاله، كان يعطينى الزاد للحياة والعطاء للفقراء، لم يبحث يوما عن الدنيا أو المال، لم يأمرنى يوما أن أصنع له طعاما معينا، إذا لم يجد شيئا يأكله كان يأكل خيارة أو بعض الخضرة، كان بيته مفتوحا للجميع، كان يحب الناس جميعا، لم يكره فى حياته أى إنسان حتى الذين أكلوا حقه تسامح معهم، وكذلك الذين خدعوه، يقول دوما: «الدنيا لا تستحق الخصام».
كان متصالحا مع نفسه ومع الدين ومع الناس، وقبل ذلك كان متصالحا مع ربه، كانت رسالته فى كل كتاباته الدفاع عن الدين وثوابته، كان يتسامح مع الجميع إلا من يهاجم أسس الدين الواضحة أو يتجاوز فى حق النبوة.
كان يستضيف وزوجته أى مكروب ويتحمله تحملا كبيرا، استضاف مرة جريحا فلسطينيا وأمه، كانا عصبيين جدا مما أغاظ أولاده فكان يقول: لابد أن نتحملهما فقد تحملا الكثير عن الأمة العربية.
تقول زوجته كان دوما ينادينى: «يا دكتورة ليلى» ولم ينادنى باسمى إلا قبل موته بأيام، كان يرجو لقاء ربه، يقول لنفسه بين الحين والآخر: «يالله بالسلامة يا نفسى، أنا أغبط الناس التى تموت».
كل من عاشره كان يرى فيه ملكا متسامحا لا يمت للبشر بصلة، ولا يمت للأرض وصراعاتها وأحقادها وأسافينها، كان مظلة لكل من حوله فى هجير الحياة.
قالت زوجته بعد فراقه السريع الذى فوجئت به: أنا أعيش اليوم هذه الآية: «وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا» لا أدرى ماذا أقول، ولا ماذا أفعل، ولا كيف أتصرف، ولا أين أتوجه، فقدت بوصلتى فى الحياة كلها، كيف سأجد مرة أخرى إنسانا يحب الخلق جميعا، ولم يضبط مرة يكره أحدا مهما قسا عليه أو ظلمه، بعد أن رأيته عدة مرات فى مجلة المختار الإسلامى ونحن شباب قالت لى صديقتى الصحفية: ما رأيك فى هذا الشاب قلت لها بتلقائية: هذا الذى أريد أن أتزوج مثله؟ وارتبطت أرواحهما برابطة لم تنفصم أبدا.
كان زاهدا فى الدنيا إلى درجة كبيرة، ويتنازل عن معظم حقوقه، ولا يتنازل أبدا عن مبادئه، عمل فترة فى جريدة حزبية فلما أراد أن يعين فيها قالوا له: لابد أن تدخل الحزب أولا ثم تدخل الانتخابات، فقال: أنا أكره الحزبية والتحزب، ففقد العمل.
كان يكره كل الإطارات التنظيمية، كان يعتقد أن الإطارات الحزبية أو التنظيمية أو إطار الجماعات هو سجن كبير وقيد لا فكاك منه وهو أقرب إلى المصلحة الدنيوية منه إلى المصلحة الدينية أو الوطنية.
كان أول من نقد الحركة الإسلامية فى الثمانينيات وكلفه ذلك الكثير، ورغم ذلك كان يرى نقدها تصحيحا وتصويبا لمسيرتها لا شماتة فيها أو إساءة أو شتم أو سب، كان ينقدها لوجه الله وحده، فلم يتكسب من وراء ذلك شيئا، بل توقف عن نقدها عندما حلت نزيلة دائمة للسجون.
كان زاهدا فى الدنيا بشكل لم يسبق، لا يحب المظاهر ولا المناصب ولا السيارات، تكفيه لقيمات، كان يكره الاختلافات الفكرية والمذهبية التى لا طائل من ورائها، ورغم ذلك كان أول من حذر فى الثمانينيات من المد الإيرانى فى المنطقة العربية وكان يراه خطرا كبيرا للعرب ودولهم، وقد كان له عشرات الأبحاث والدراسات فى ذلك، فكان سابقا لزمانه وأقرانه، كان يرى التسامح مع الكون كله، وأن كل إنسان فيه مميزات وحسنات وعلينا أن نبحث عنها ونشجعه عليها.
لما رأت زوجته هذا الزهد الكبير فيه خافت على مستقبل أولادها المادى من تفريطه فى حقوقه، فقال لها والدها وكان حكيما: «أنت رزق سيد، فلا تخافى»، وكأنه يقرأ طالع الأيام وأنها ستحسن تدبير الحياة والعيش لزوجها، ولذلك أراد زوجها المرحوم سيد أن يريحها من أى عناء إدارى أو قضائى فكتب لها توكيلا عاما تتصرف من خلاله فى كل أملاكه قبل أن يموت بفترة.
لم يشترط على أزواج بناته أى شروط، وقبل منهم إمكانياتهم المادية، مادام توفر فيهم شرطا الخلق والدين والكفاءة.
هو أحد رواد الصحافة الإلكترونية فى العالم العربى وأسس وأدار عدة مواقع كبرى منها ذاكرة الإسلام، رسالة الإسلام، لواء الشريعة، ومن كتبه «كتاب الصحافة الإلكترونية» وعلّم عشرات الصحفيين كيفية إنشاء وإدارة المواقع الإلكترونية بطريقة صحفية شريفة وحديثة ومتطورة.
كان لا يفرح ولا يشمت فى أى إنسان ظلمه أو أكل حقه إذا أصابته جائحة أو مصيبة، ويردد: يا رب أنا سامحته، يا رب فرّج كربه.
كان يقول قبل موته بأشهر وقبل الأزمة الصحية إننى سأموت، عندما فقد معظم وعيه كان لا يردد إلا كلمتين: يا رب، الحمد لله.
تقول زوجته الصحفية د.ليلى بيومى وهى تغالب دموعها: «توسلت إلى الله كثيرا أن يبقيه لنا فنحن بحاجه إليه، ولكن الله اختار له اختيارا آخر «قلت لها»: «إنه الاختيار الأفضل إنها الشهادة «شهيد الكورونا».
هو صحفى مخضرم ولكنه كان يرجو الشهادة ولا سبيل له إليها ولكن الله علم منه ذلك فمنحه هذا الوسام العظيم فقد مرض بالكورونا واشتد عليه المرض، حتى توفى شهيدا ليدخل ضمن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «المبطون شهيد»، «والمطعون شهيد» أى الذى أصابه الوباء ومات منه.
حينما ناولت هذا المقال لزوجتى لتبدى رأيها فيه، قالت: كأنك تتحدث عن نفسك وليس المرحوم سيد أبو داود قلت لها: إنه يكاد يشبهنى تماما فى أمور كثيرة، وحينما عاشرته وجدت أننا قريبا الطباع والأخلاق.
رحم الله الصحفى الإنسان المتسامح د. سيد أبو داود

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved