«عن الأبدية».. قراءة فى لحظات عابرة!

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الخميس 19 ديسمبر 2019 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

ما يستحق التنويه فى فيلم «عن الأبدية» للمخرج السويدى، روى أندرسون، أنه تجربة مختلفة عما تعود جمهور الأفلام العادية؛ حيث الحبكة التقليدية، والعلاقات السببية الراسخة التى تصنع عقدة وذروة، وتنتهى إلى حل.
فيلمنا يبدو مثل قصاصات متناثرة، قصيرة للغاية، وأندرسون لا يتعامل مع مشاهد بالمعنى المألوف، ولكن مع لحظات مصورة، ورغم أن بعض الشخصيات يتكرر ظهورها، فإن معظم الشخصيات تظهر فى لحظتها الخاصة فقط، والذين يتكرر ظهورهم، لا يتصاعدون بالأحداث؛ أى أن الدراما بمعناها التقليدى لا وجود لها، وبدلا من تعميق حكاية واحدة من البداية للنهاية، فإن أندرسون أخذ شريحة من الناس، فى لحظات محددة، ثم تركهم بعد ساعة و18 دقيقة فقط، هى زمن الفيلم.
فيما يتعلق بالشكل أيضا، فإن هذه اللحظات تقدم بشكل لا يتغير: كاميرا ثابتة، وشخصيات تتحرك ببطء، مع بعض اللمسات الساخرة أحيانا، وسبب البطء مرتبط برغبة أندرسون أن تتأمل، وأن تبدو هذه اللحظة القصيرة، والتافهة أحيانا، ممتدة وجديرة بالاهتمام.
أما الفكرة وراء حشد هذه اللحظات، التى تسردها حكاءة تبدأ كلامها بعبارة «عرفت كذا أو كيت»، فلا علاقة لها بالسبب والنتيجة، فلا شىء يجمع بين هذه اللحظات سوى أن رواية الفيلم تريد أن تسجل حالات الإنسان المتغيرة، وأسئلته العميقة والتافهة، وأن تنقل هواجسه وعواطفه وتقلباته، وكلها بالتأكيد أفكار أندرسون المختبئ خلف الراوية التى عرفت.
عبارة «عن الأبدية» لا تعنى الخلود، وإنما التكرار اللا نهائى للحظات مع تكرار البشر والأجيال، ورغم أن الراوية تعتقد أن كل ما عرفته فى حياتها هو أمر مهم وجدير بالحكى، فإن اللحظات نفسها عابرة، وما شاهدناه مبتور التفاصيل أساسا، وكأنه يبتعد عمدا عن تسلسل الأسباب والنتائج.
هناك لحظات تقترب من مواقف لها مقدمات، مثل ذلك الذى قتل ابنته بسبب الشرف، ثم شعر بالندم، وهناك لحظات لها مقدمات وأسباب محجوبة، مثل ذلك الذى صفع امرأة أمام متجر السمك، وهناك من يتكرر ظهوره مثل الرجل الذى تجاهل صديقه السلام عليه، ومثل القس الذى تطارده الكوابيس، بعد أن فقد إيمانه بالله، وهناك من يظهر بلا تعليق أصلا، مثل ذلك الشاب الذى يدلل طفلته، وسط سعادة أمه، وبهجة زوجته، بل وهناك من يظهر بدون معلومات، مثل المرأة الوقحة البدينة التى لم نعرف عنها أى شىء، ولم تعد من جديد إلى الظهور.
هناك تعمد إذن فى تنويع وسائل السرد، وكسر أى توقع فى المشهد التالى، القانون الوحيد هو اللحظة، والبطل الوحيد هو الشخص العادى، والحكاية نفسها ليست مهمة، ولا بأس من إكمالها فى خيالك، ولكن المهم هو اللحظة والموقف والحالة، والإنسان فى حالاته الغريبة، وفى اهتماماته المختلفة، وفى دهشة التأمل والتفكير.
الحياة تبدو حرفيا مثل لحظة، واهتمام كل شخص بلحظته الخاصة، يجعل كل شىء مهما، لا مكان فى الفيلم للحظة تافهة، حتى لو كان ذلك رأينا فى ما شاهدنا من لحظات، ولكن المعيار هو المخرج وشخصياته التى تؤدى بمنتهى الجدية، وصوت الراوية، التى تبدو مهووسة بتسجيل لحظات البشر، وهى تحكى الكابوس، بنفس الاهتمام الذى تحكى فيه موقفا واقعيا، أو الدرجة ذاتها التى تلون فيها حكايتها، كما فى قصة الفتاة التى لم تجد أحدا فى انتظارها فى محطة القطار، ثم انتهى انتظارها نهاية سعيدة.
وحتى عندما نجد رجلا وامرأة يحلقان فوق مدينة استلهاما من لوحة لـ«شاجال»، فإن الفانتازيا تروى باعتبارها حقيقة واقعية صوتا وصورة، وكأن الخيال أيضا لحظة تستحق التسجيل والاهتمام، وكأن اللحظة وحدها هى معيار وقانون الفيلم، لا فرق بين ما نشاهد، أو نقرأ، أو نشعر، أو نتخيل، أو نتأمل.
لا شىء يبدو تافها إذا كان وراءه شخص مهتم، ولأن سيل اللحظات لا ينتهى، ولأن الاهتمام والأسئلة بعدد البشر، فإن الفيلم بلا نهاية، فقط الرواية ستتوقف عن سرد ما عرفت، لا إجابات أبدا، خاصة عن سؤال القس الذى فقد إيمانه، ولا رابط بين هؤلاء البشر سوى الاهتمام بلحظة ما، وإذ تقف الكاميرا ثابتة فى كل مشهد، فإنها تبدو مثل عيون جمهور الصالة لا عين المخرج، هكذا جعلنا روى أندرسون نهتم أخيرا ببشر لم يكونوا أبدا فى دائرة اهتمامنا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved