الكرنفال

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الإثنين 20 يناير 2020 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب عبدالله ابراهيم... جاء فيه ما يلى:
ألهمتْ كرنفالات القرون الوسطى، وعصر النهضة، الناقد الروسىّ «باختين» رغبة أصيلة للبحث فيها بوصفها أحد الأصول المهمّة للرواية الحديثة، وحيثما يدور الحديث عن المهرجانات الشعبيّة، فلا يُمكن إغفال دَوره فى التأسيس للمفهوم، وبخاصّة فى دراستَيه الرائدتَين عن رابليه ودوستويفسكى؛ فالكرنفال هو المجموع الكلّى لمختلف أشكال الطقوس الاحتفاليّة العامّة، وهو مهرجانٌ طقوسىّ استنبط لغته من الأشكال الرمزيّة الحسيّة الملموسة بدايةً بالأفعال التمثيليّة وصولا إلى الإيماءات الفرديّة. وبهذه اللّغة التى لا يكاد يكون فيها للكلام موقع جدير بالذكر، عبَّر الكرنفال عن المعانى الخاصّة به، ويتعذَّر ترجمة هذه اللّغة إلى لغة لفظيّة، ويستحيل تحويلها إلى مفاهيم تجريديّة، فهى صور متحوّلة متّصلة بأحاسيس الناس ومَشاعرهم، ولكنْ بالإمكان تحويلها إلى لغة أدبيّة باعتبار المجاز المُشترَك للتعبير فى ما بينهما.
يخلو الكرنفال من التمثيل المسرحى بأصوله المعروفة، أى لا يتوافر فيه جمهور يُشاهد ويصغى، ومؤدّون يقومون بأفعالٍ تمثيليّة مكتوبة، فكلّ فرد فيه عنصر مُشارِك، وله الحريّة فى أن يفعل ما يحلو له داخل مجتمع الكرنفال، والمشاركون يعيشون فيه، ويحيون بقوانينه، وما دامت تلك القوانين فاعِلة، فهذا معناه أنّهم يحيون حياة كرنفاليّة متداخلة تتقصَّد قلب المعانى، وتغيير مَواقع الأشخاص، وتتلاعب بكلّ ما تراه قابلا للتلاعب، حيث يجرى تعليق مفعول قوانين الضبط الاجتماعى، وتُنتهك الأعراف السارية فى الحياة الاعتياديّة. وأوّل ما يتم تعليقه، البنية التراتبيّة فى المجتمع، وهتك أشكال الرهبة، والتبجيل، والتقوى، أى إلغاء كلّ ما يحول دون المساواة بين الأفراد داخل الكرنفال، فتُلغى المسافات الفاصلة بينهم، ويحلّ الاتّصال الحميم بين الجميع. فالناس، فى حياتهم العاديّة، غالبا ما يكونون منفصلين بحواجز تراتبيّة: طبقيّة، أو دينيّة، أو ثقافيّة، أو سياسيّة، ولكنّهم ينتهكونها دفعة واحدة ما أن يدخلوا ساحة الكرنفال، حيث لا رقيب عليهم، فتُباح الأفعال الجريئة، والإيماءات البذيئة؛ فلغة الكرنفال قوامها التعبير الحَرَكىّ للمُحتفلين، إنّه المكان المناسب لخلع الوقار، وازدراء الرصانة، والأخذ بعلاقاتٍ بديلة تقوم على التواصل المباشر بعيدا عن الأعراف الاجتماعيّة.
***
أَفرزت الكرنفالات الوسطيّة أفعالا غرائبيّة، ومَشاهد ساخرة، وانتهاكا مقصودا لذوى السلط، ويقع العبور من حالة لا تكافؤ اجتماعى إلى حالة مساواة فى التهريج والاستمتاع والطرب والنشوة، فيُجمع المقدَّس بالمدنَّس، والرفيع بالوضيع، والعظيم بالحقير، والحكيم بالغبى، وتُمحى الحدود بين الأفكار، والمَواقع، وتَدفع هذه المُخالطة الحرّة بمُمارسات تتقصَّد تدنيس الأشياء، وتحقير الأفعال العظيمة، وإنزال الأشياء من عاليها إلى سافلها، وتحلّ البذاءة، والتهتّك، والمجون، والسفاهة، محلّ الاحتشام، والتعفّف، والتهذيب، والوقار؛ فالكرنفال يوفِّر اجتماعا احتفاليّا يتخطّى التمييز والتفريق. وهو مجال لتعبير الإنسان عن نفسه من غير رادع أو رقابة. وبمرور الزمن، أصبح طقسا دَوريّا يُقبل عليه الناس فى تحدٍّ للصرامة التربويّة التى جاءت بها الأديان والقوانين والأعراف، وترسّخت هذه الطقوس، وانتفع بها الأدب، ولاسيّما السرد، فكان أن مُحيت الحدود الفاصلة بين الملاحم والمآسى، وحلّت محلّ ذلك ضروب تمثيليّة حواريّة كالأهاجى الساخرة القائمة على التحقير والتدنيس.
هَيمنت الروح الكرنفاليّة على الحياة المجتمعيّة خلال القرون الوسطى، وبلغت ذروتها فى عصر النهضة، حيث ارتسم الانقسام بين حياة حرّة ضاحكة تُلغى فيها الحدود بين الأفراد فى الكرنفالات، وحياة رسميّة تطغى عليها الجديّة والرتابة، وقد جرى الاعتراف بالحدود الفاصلة بين هذَين الضربَين من الحياة. ومعلوم أنّ الكرنفالات دفعت للحياة بضروبٍ تعبيريّة لم تكُن معهودة، ولم تُراعِ حدود الحشمة، والحياء، والخجل. هذا ما استخلصه باختين فى بحثه عن الكرنفال فى دراسة معمّقة تَرجمتها خالدة حامد.
الكرنفالات الاحتفاليّة ونسخها الأدبيّة
فى ضوء مفهوم الكرنفال تقصّى باختين نَسَب الآداب المُضحكة فى الآداب القديمة والوسيطة والحديثة، فذكر منها: المَشاهِد الساخرة فى الآداب اليونانيّة والرومانيّة، والمُحاورات السقراطيّة، وآداب المائدة، والمذكّرات، والأهاجى، والأشعار الرعويّة، ووضَعها فى الطرف المُقابل للآداب الجادّة، مثل الملحمة، والمأساة، والتاريخ، ووجدَ الآداب المضحكة ترتبط بالكرنفالات الاحتفاليّة، ويكاد بعضها يكون نسخا منها، لأنّ الموقف الاحتفالى من العالَم يتغلغل فى تلك الأصناف من القاعدة إلى القمّة، واستخلَص لها خصائص مميّزة، منها: أنّ جميع أصناف الآداب المُضحكة لها موقف مباشر من الواقع القائم، فمادّتها مستقاة من الواقع، وهى تنطلق من فهمٍ معيّن للواقع، وتتولّى تقويمه، وإعادة صَوغه. فهى ترتبط بالحياة المعاصرة لها، بما فيها من مباشرة وفظاظة، فلم تستعر أحداثها من الماضى كما فعلت المَلاحم والمآسى، بل نهلت مادّتها من واقعها. ومنها أنّها لم تتعكّز على الموروث المجيد، إنّما تولّت انتقاده، والتعريض به فى بعض الأحيان، وبه استبدَلت الخبرة العمليّة، ولم توفّر التلفيق والاختلاق فى أحداثها، ومنها أنّها جاءت متنوّعة فى أساليبها، وفيها تعدديّة فى الأصوات، ورفض الوحدة الأسلوبيّة، وقامت بمزْج السامى بالوضيع، والجادّ بالمُضحك، واستعانت بالاستهلالات التمهيديّة كالرسائل، والمخطوطات، والحوارات المصاغة بطُرق جديدة، والمُعارَضة الساخرة للأصناف الجادّة، والاقتباسات التى يُعاد تفسيرها بطريقة تبعث على الضحك، ولوحظ على تلك الآداب المزج بين الصيغتَين النثريّة والشعريّة، وإدراج اللّهجات الحيّة، وتنكّر المؤلّفين وراء الأقنعة.
نبشَ باختين فى الآداب الساخرة خلال القرون الوسطى فوجدها لصيقة بالاحتفالات الشعبيّة، ومنها الأعياد التى تعجّ بالمظاهر الساخرة، ومصارعة الثيران، ومواسم قطف العنب، والألعاب الخارِقة، وقد اعتمدت مظاهر التعبير فيها على الكلام المبتذل، والألفاظ الغليظة، والشتائم المُقذعة، والإيماءات الساخرة، والتوريات الخادِشة، وعدم التكلّف فى القول والفعل، وذلك كلّه على سبيل التفكّه الظريف الذى لا يُحمل على محمل الجدّ، إنّما يوارب فى الإشارة إلى الاحتجاج من الرتابة الاجتماعيّة والدينيّة؛ ثمّ تطوَّر الأمر فى عصر النهضة، فاخترق العنصرُ الاحتفالى الحواجزَ التى وُضعت أمامه، واجتاح معظم مجالات الحياة الرسميّة والعقائديّة. «تمكَّن هذا العنصر بالدرجة الأولى من جميع الأصناف الأدبيّة الكبرى تقريبا، وغيَّر من تركيبها تغييرا جذريّا. كذلك جرت إشاعة الطابع الكرنفالى بصورة عميقة جدّا، بحيث شملت كلّ الأدب الفنّى تقريبا. إنّ الموقف الكرنفالى من العالَم مع ما له من أصناف نوعيّة، والضحك الكرنفالى، ورموز المَشاهد الكرنفاليّة الخاصّة بالتتويج، ونزْع التاج، وبعمليّات التناوب، وتبديل الأزياء، كذلك التكافؤيّة بين الأضدّاد الكرنفاليّة، وكلّ ظلال الكلمة الكرنفاليّة الحرّة، البعيدة عن الكلفة، والصريحة بصورة وقحة، والتوفيقيّة، والمادِحة ــ النابِذة، كلّ ذلك تغلغلَ بعمق فى جميع أصناف الأدب الفنّى. وبالاستناد إلى الموقف الكرنفالى من العالَم، تمّ تكوين أشكال معقّدة خاصّة بالعقيدة النهضويّة. ومن خلال المَوقف الكرنفالى من العالَم، تنعكس فى نطاقٍ معلوم حتّى قيَم الحضارة الإغريقيّة والرومانيّة. هذه القيَم التى جرى تبنّيها من جانب المفكّرين الإنسانيّين فى عصر النهضة. والنهضة تمثّل قمّة الحياة الكرنفاليّة».
وإلى ذلك تعقّب باختين ظروف نشأة الرواية فوجدها لصيقة بالضحك، أى بالهجاء الساخر من الشخصيّات والأحداث فى الآداب الشعبيّة، ولهذا ربط ظهور الرواية بالسخريّة، فكثير من ضروب الأهاجى النثريّة، وتجلّياتها الكرنفاليّة، بما تتضمّنه من هزء وتعريض، شكَّلت قاعدة انبثقت عنها الرواية الحديثة؛ لأنّ الهجاء فَصم صلة الآداب القديمة عن عوالِمها المرجعيّة، فجعل من الواقع الاجتماعى موضوعا له، وهذا الواقع الفجّ هو البيئة التى نهلت الرواية موضوعاتها منها، على غير ما قامت به المَلاحم والمآسى من استلهام أمجاد الماضى. فى ما يتّصل بالضحك، يجب البحث فى الموضوعات التى لها صلة بالواقع، وليس الموضوعات المُستعارة من الأزمنة الخالية؛ لأنّ الضحك بمُلازمته للظواهر الاجتماعيّة يمتلك القدرة المُدهشة على تقريب الشىء، ويُدخله فى دائرة الاتّصال الفظّ، حيث يُمكن مُداعبته من النواحى كافّة.. الضحك يزيل الخوف والاحترام الخاشع أمام الشىء، وأمام العالَم، ويَجعل منه موضوعَ اتّصال مألوف. الضحك عامل مهمّ لإزالة الخوف، وهو مقدّمة لا بدّ منها لإجراء تقريبٍ واقعى للعالَم، وبتقريب الشىء وجعله مألوفا، فإنّ الضحك يسلّمه إلى أيدى البحث القاسية، وإلى الخيال الحرّ المجرِّب. إنّ جعْل الكَون مألوفا بواسطة الهجاء واللّغة الشعبيّة هو مرحلة مهمّة جدّا وضروريّة على طريق الإبداع الحرّ؛ فالتصوّر الهزلى يقدِّم صفات متميّزة على صعيدَى الزمان والمكان، ويكون دَور الذاكرة محدودا، لأنّ عالَم الهزل لا يترك للذاكرة أى فعاليّة سحريّة، إذ يسخر الإنسان ليَنسى. وهنا تقع المنطقة التى يكون فيها الاتّصال مألوفا وفظّا للغاية، وينتقل من الضحك إلى الانتهاب والضرب، ويجرى نزْع الطابع القدسى عن الأشياء، فينتقل الموضوع من مستوى التباعُد إلى مستوى التقارُب، وتقع الإحاطة به، وتجريده من هيبته، ويصبح كلّ شىء موضوعا للسخريّة، وبخاصّة على ما كان يُعدّ من الأشياء المُعيبة أو المُشينة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved