دكتاتورية الفكر الخفية

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الأربعاء 20 يناير 2021 - 7:40 م بتوقيت القاهرة

من الضرورى أن يتعرف شباب وشابات هذه الأمة، وهم قادة هذه الأمة فى المستقبل القريب، أن يتعرفوا على ما يقوله محللو ومفكرو هذا العالم عن التغيرات فى صفات وطرق التفكير والسلوك السائد فى عصرنا الحالى. فطرق تفكير إنسان هذا العصر، وبالتالى سلوكه وتفاعلاته مع الحياة والناس، لها تأثيرها الكبير على ما يجرى فى عالمنا المعاصر. وبالطبع فطرق التفكير الجديدة والسلوكيات الممارسة المستحدثة وراءها من يستنبطها ويدعوا لها وينشرها ويدافع عنها ويستفيد من ورائها، سواء من قبل أفراد أو مؤسسات أو جماعات، وعلى الأخص فى حقول السياسة والدين والإعلام والتواصل الاجتماعى.
وتبذل جهود إعلامية وإعلانية هائلة، وتجيش كل أسلحة ووسائل علم النفس، لتطويع أفكار وسلوكيات الشباب على الأخص بهدف هيمنة منطلقات ثقافة عولمية واحدة، هى أمريكية، رأسمالية نيوليبرالية فى الأساس، وبهدف تهميش كل الثقافات الأخرى.
فى قلب تلك المحاولة التركيز المبالغ فيه على الفردانية بما يصاحبها من بناء شخصية نرجسية وإثارة وتمجيد لكل غريزة بشرية بدائية، والاكتفاء بعيش اللحظة الآنية دون الالتفات إلى الماضى والتطلع نحو المستقبل، والهوس بالحقوق دون ضبطها بالواجبات، والإصرار على تحقيق الرغبات دون ضبطها بالإمكانيات.
وبالطبع فإن كل ذلك يقود إلى نتائج مقلقة. فالمبالغة فى الفردية تؤدى إلى إهمال وضعف ممارسة الديموقراطية الجمعية، وهو ما يفسر جزئيا إحجام الشباب عن القيام بواجب التصويت خلال الانتخابات المحلية والوطنية. والالتزام نحو الآخرين والمجتمع يحل محله حق ممارسة الاختيار الفردى فى كل شىء وتفضيله على كل شىء. والمبالغة فى استقلال الذات تؤدى شيئا فشيئا إلى نوع من خصخصة المجتمع فى تركيبته وعلاقاته. وعند ذاك ينجح الطعم الذهنى القائل بأنه كلما عملت لساعات أطول وبجهد مضنٍ أكبر كلما استطعت شراء أشياء أكثر وحققت رغبات مظهرية أكثر.
وهذا ما يقود إلى نوع من العبودية التى يقبلها إنسان العصر دون أن يفكر فى نتائجها الكارثية عليه وعلى علاقاته الاجتماعية.
وشيئا فشيئا تصبح الكمية أهم من الكيفية، والشعبوية أهم من الانتقائية، وقبول إملاءات استطلاع الرأى دون ممارسة للعقلانية ودون تحكيم للقيم والأخلاق. ولذلك ليس بمستغرب أن تقاس قيمة الكتب بأعداد مبيعاتها وبمدى تربعها فى احتفالات توزيع الجوائز بدلا من محتوياتها الفكرية والإبداعية ومدى إغنائها للمسيرة الإنسانية.
لخلق تلك الشخصية، ولقيادتها نحو فوضى وعزلة فكرية ونفسية وروحية، لا بد من وجود أنواع من الدكتاتوريات المخفية المقنعة. فالأخصائى فى حقل محدود صغير يستمع إليه وصاحب النظرة الفكرية الشاملة مستبعد، وأعداد المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعى هو المقياس الذى يتغنى به معلقو الإذاعات والتلفزيونات وكتاب الصحف، وهو أفيون الشعوب الحالى.
وتلفزيون الواقع يكبر وينتشر بينما تلفزيون الفكر والثقافة الرفيعة يتضاءل ويعيش على الهوامش. ومن قبل كان العالم يؤمن بمقولة «أنا أفكر فأنا إذن موجود»، أما الآن فقد أصبحت مقولة «أنا أشاهد فى التلفزيون أو يستمع إلى فى الراديو فأنا إذن موجود». تلك الدكتاتوريات الخفية وغيرها كثير حلت محل دكتاتوريات البروليتاريا، وشئيا فشيئا تحل محل إملاءات الضمير، وتوجيهات الحكم الصالح.
ما يراد لإنسان العصر هو أن ينسى المثل الصينى الشهير القائل بأن «السعادة هو أن تكون لديك مهمة تنجزها وأمل تسعى لتحقيقه وأناس آخرين تحبهم». وأن ينسى ما كتب على قبر كارل ماركس: «نحن الفلاسفة نفسر العالم، لكن المهم هو تغيير هذا العالم». يراد لشباب هذا العالم وشاباته أن يعيشوا هما واحدا: الإيمان بما تقوله تلك الدكتاتوريات الخفية والعمل بما تمجده وتصقله وتمزجه بشتى السموم من أجل إماتة الفكر والحس والروح والضمير فى إنسان هذا العصر.
إذا كان شباب هذه الأمة يريد أن يحرر وينهض أمته فإنه يحتاج أن يقاوم آفات العصر تلك ويعيش حريته العلوية السامية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved