جامعة دينها العلم

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 20 يناير 2022 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

تحدّث مقال الأسبوع الماضي عن طلاب الجامعات المصرية وكيف أنهم يفضّلون الامتحانات الأونلاين لأنها تضمن لهم أن يخرجوا منها بما خفّ حَمله وغلا ثمنه. أما ما خفّ حمله فهو العلم، وأما ما غلا ثمنه فهو الشهادة، وإن لم أكن متأكدة بالضبط من أن الشهادة الجامعية مازالت غالية الثمن، فالتوسع الأفقي العددي في التعليم الجامعي إن لم يقترن بتوسّع رأسي نوعي فلا فائدة منه، ونحن نرى أنه بعد أن كانت لدينا مشكلة تتعلق ببطالة خريجي الجامعات، أصبحت لدينا مشكلة تخّص بطالة حَمَلة درجتّي الماچستير والدكتوراه، وهذه الظاهرة شائعة في مصر بالتأكيد لكن لها امتداداتها العربية الأوسع والتي تصل حتى إلى الدول الخليجية النفطية، وفي هذا المقال تنويع على إشكاليات التعليم الجامعي من زاوية دور الجامعة ورسالتها العلمية.
•••
عندما رحل الدكتور جابر عصفور عن عالَمنا قبل نحو ثلاثة أسابيع فقدَت الجامعة واحدًا من أبرز المدافعين عن مضمون رسالتها التنويرية. تتعدد مستويات الفَقد للدكتور عصفور، فهناك فَقد على مستوى العمل الثقافي من خلال إنتاجه المتدفق وعديد المواقع التي خدم فيها، وفَقد على مستوى اللغة العربية التي اتخذها رافعة لمشروعه الفكري في توجهه نحو المستقبل، وفَقد على المستوى الأكاديمي وهو الأستاذ الجامعي المرموق الذي ما ابتعد عن جامعته إلا ليعود إليها. كل المستويات مترابطة، والتنوير هو مناط الربط بينها كافة، ولذلك نجد نحن قرّاء الدكتور جابر عصفور أن مصطلح التنوير لازَم عددًا لا بأس به من أعماله وكثيرًا ما صادفنا هذا التنوير والراحل الكبير يبدأ به جملة مفيدة أو ينهيها، ومن قبيل ذلك "التنوير يواجه الظلام"، و"دفاعًا عن التنوير"، و"هوامش على دفتر التنوير"، و"أنوار العقل". إنه على درب أستاذه وقدوته الدكتور طه حسين، ذلك الأزهري المستنير الذي تُوّج عميدًا للأدب العربي وقضى عمره المديد محاربًا ظلام العقول، حتى إذا اجتمع عليه الخصوم وقاضوه كاد أن يفقد منصبه الجامعي في أزمة الشِعر الجاهلي، فلم ينج إلا حين وجد في ظهره مَن رفضوا الترويع الفكري بذريعة الدين. والتنوير عند الدكتور عصفور لا يتحقق إلا في مناخ من الحرية بشكل عام وحرية البحث العلمي بشكل خاص، ففي هذا المناخ وحده يمكن إثارة فضول المعرفة وتشغيل العقل وإعمال العلمانية، وهو في ذلك من بين المثقفين القلائل الذين يسمون الأشياء بمسمياتها، فلا يختبئون خلف الدفاع عن شعار التنوير ويتجنبون المطالبة بالعلمانية خوفًا من تلبيس العلمانية بالإلحاد. إنه رجل يقول بالفم الملآن ويكرر إنه لا استنارة بدون عقلانية ولا عقلانية إلا في ظل دولة مدنية ديمقراطية حديثة تفصل بين الدين والسياسة، ويتساوى فيها الجميع على قاعدة المواطَنة ولا شيء غير المواطَنة.
•••
بين عديد أعمال دكتور جابر عصفور لي ميل خاص ناحية كتابه "جامعة دينها العلم" الذي أصدره في عام ٢٠٠٨ عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ثم عاود مناقشة بعض ما ورد به من أفكار في سلسلة من المقالات الممتعة التي نشرها في جريدة الأهرام بدأها في مايو ٢٠٢٠. عنوان كتابه وسلسلة مقالاته مُستقى من تصوّر زعيم الأمة سعد زغلول، الذي كان عضوًا في اللجنة التحضيرية لإنشاء جامعة القاهرة ثم وزيرًا للمعارف العمومية، فلقد كان سعد زغلول يتعامل مع العلم بوصفه دين الجامعة. إن الساحتين الثقافية والسياسية كانتا مجهّزتين تمامًا لظهور أول جامعة مدنية مصرية في السنوات الأولى من القرن العشرين: حياة صحفية زاخرة، وديناميكية حزبية متنامية، ونهضة أدبية تعزّزت بالتفاعل بين مصر ومحيطها المشرقي المتألق، والأهم من ذلك هو وجود نخبة واعية بوجود فراغ يحتاج إلى من يملأه، ومن هنا تولّدت فكرة الاكتتاب الشعبي لبناء صرح الجامعة، وبالفعل احتُفل بافتتاح جامعة القاهرة في عام ١٩٠٨، ولم يكن في الأفق العربي حينها إلا جامعتان إسلاميتان هما جامعة الأزهر في مصر وجامعة القرويين في المغرب. وعندما نسأل مَن الذي مهد الطريق للآخر، هل جامعة القاهرة هي التي مهّدت لثورة ١٩١٩، أم أن ثورة ١٩١٩ هي التي حرّرت جامعة القاهرة من قيودها في البداية، فإننا نجد أنفسنا أمام علاقة دائرية متصلة، فجامعة القاهرة بحكم هويتها المدنية صُممت لتستقبل عموم المصريين بدون تمييز بينهم على أساس الدين وهذا أحد المرتكزات الفكرية لحزب الوفد، وثورة ١٩١٩ أدمَجَت المرأة المصرية في الحياة العامة وفتحَت لها أبواب الجامعة. ومن المعلوم أن الجامعة كانت قد خصصّت فرعًا نسائيا لها (أو لنقل جيتو) عام ١٩١٠ كي لا تخالط الرجال، ومع ذلك فإن التيارات المحافظة لم تستسغ فكرة دخول الفتيات إلى الجامعة من الأساس فإذا بها تُستَنفَر وتحتشد وتهاجِم فيقع إغلاق الفرع النسائي، حتى إذا قامت ثورة ١٩١٩ تبدّلت أحوال كثيرة ومنها حال المرأة المصرية.
•••
لا يتركنا دكتور عصفور تحت وهم أن معارك التنوير كانت سهلة، ولا أن دعاة التنوير كانوا دائمًا في موقع المنتصر، فالمعارك الجادة تكون صعبة بطبيعتها، وهي تحتمل الكّر والفّر لمرات. وبشئ من التبسيط المخّل يمكن القول إن أبواب جامعة القاهرة في بداية تأسيسها كانت في قلب المعركة: مَن يتحكّم في حركة تلك الأبواب؟ مَن الذي يفتحها أو يغلقها في وجه الأفكار والاتجاهات والفئات الاجتماعية المختلفة؟ إنه أمر يذكّرنا بإحدى نظريات الاتصال الشهيرة التي تُعرَف بنظرية حارس البوابة والتي كانت قد ظهرت في نهاية السبعينيات، وجوهرها وجود مَن يتحكّم في المادة الإعلامية ويضبطها عند كل مستوى من مستويات تدفقها. وهكذا تحفظ الذاكرة التاريخية أسماء معارك شهيرة فُتحت فيها أبواب الجامعة فتحًا لأصحاب الفكر المختلف، ولنا في قصة دكتور طه حسين آية، لكن في أحيان أخرى أُغلقت الأبواب في وجه أصحاب هذا الفكر فإذا بباحث كبير من أصحاب المقامات الفكرية العالية هو محمد أحمد خلف الله يُنقل من الجامعة إلى وظيفة إدارية بوزارة المعارف العمومية والأنكى أن تُشطَب رسالة الدكتوراه التي حصل عليها من الخارج لأن عنوانها كان هو "الفن القصصي في القرآن الكريم". ومن خبرات النجاح في فتح أبواب الجامعة يتبين لنا أن الأمر يتعلّق ببيئة الجامعة الخارجية ومدى تشجيعها المراجعات والاجتهادات والرؤى النقدية، هذا موكّد، لكنه يتعلّق أيضًا ببيئة الجامعة الداخلية ومدى استعدادها للدفاع عن الحريات الأكاديمية في مجال التفكير والبحث، فهذه البيئة الجامعية كما نصرت دكتور طه حسين خذَلت دكتور محمد أحمد خلف الله.
•••
يلّح طلابنا على امتحانات الأونلاين لأنها أسهل ويستدرجوننا إلى هذا السجال الشكلي البعيد جدًا عن جوهر القضية التي تتعلق بمضمون العملية التعليمية، كما تتعلق بمسؤولية الجامعة عن تخريج طلاب يؤمنون بقيمة العقل ويملكون إرادة التغيير إلى الأفضل على مستوى التكوين الفكري. رحم الله جيل الرواد الأوائل الذين لولاهم لما عبر كثيرون منَا أبواب الجامعة ولا جلسوا في مدرجّاتها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved