يوميات طبيب

ناجح إبراهيم
ناجح إبراهيم

آخر تحديث: الجمعة 20 يناير 2023 - 8:35 م بتوقيت القاهرة

جاءت تسأل عن أجر الكشف وهى منكسرة تكاد الدموع أن تقفز من عينيها وذلك قبل أن تحضر ابنتها، قالوا لها لا تقلقى قد يرجع لك الدكتور شيئا من الأجر.

سألتها عن زوجها فقالت هو حى ولكنه كالموتى، بل لو كان ميتا لكان أفضل؛ لأنه طعننا بخنجر مسموم.

أخبرتنى أنه نجار ولكنه طفش «أى هرب» منذ عدة سنوات ولا يعرف أحد منا ولا من أقاربه وأسرته طريقا، قلت: كيف ذلك؟ قالت: تزوجنا فى شقة بالإيجار ولاحظت بعد زواجنا أنه كلما اقترب أول الشهر يختفى عدة أيام حتى أدفع الإيجار وخاصة بعد أن خرجت للعمل لمساعدته لأنه كسول، والنجارة إما أن ترفع الإنسان «فوق خالص» إذا كان مجتهدا ومتمكنا ونشيطا أو تخسف به الأرض إذا كان مثل زوجى.

كان كلما اقترب موعد أى مسئولية كبيرة لأسرتى وأولادى يهرب، وبعد أن كبر الأولاد قليلا هرب نهائيا دون أن نعرف مكانه.

قلت لها: وكيف تعيشين؟ أعمل فى مصنع، وبعض الأوقات، أمسح السلالم، أشيل، أحط، ويساعدنى معاش تكافل وكرامة رغم بساطته فقد سد ثغرة كبيرة، يكفى أنه شىء ثابت نطمئن إليه.

فكرة المعاشات أعظم فكرة عبقرية إنسانية واجتماعية فى العصر الحديث، وخاصة بعد منح معاش الأب المتوفى للابنة المطلقة أو الأولاد المعوقين.

قلت لها: كيف خدعت فى زوجك؟ قالت: أنا كنت بنت غلبانة لا أعرف شيئا فى الحياة ولم أتصور أن هناك نوعا من الرجال بهذه الصفة، هو لا يشرب المخدرات ولكنه يكره العمل. قلت لها: هذا النوع أصبح شائعا بين الرجال الآن سواء تعاطى المخدرات أم لا وأكثرهم يتعاطى ليحسن مزاجه للعمل والحياة ولكنه يكتفى بالسهر والمخدرات ولا يعمل.

هناك كثرة من شباب اليوم لا يحب العمل ولا الذهاب إليه ولا البحث عنه ولا الاستمرار فيه، قد يكون بعضهم مصابا باكتئاب لم يشخص، فأغلب المصريين يحتقرون الطب النفسى ومن لا يحتقره لا يذهب إلى الطبيب النفسى أيضا، ومن يذهب لا يواظب على العلاج، الشعب المصرى كله يحتاج تصحيح فكرته نحو الطب النفسى وأهميته.

حالات الاكتئاب عند الشباب كثيرة جدا قبل تفاقم الظروف الاقتصادية وبعدها، معظم الشعب المصرى يعانى مما يسمى «اكتئاب الصباح»، فهو يؤخر الإفطار حتى قرب الظهر فى كل مؤسسات العمل وذلك بعد رؤية الشمس التى هى أفضل علاج لاكتئاب الصباح.

تذكرت شابين لابد أن تعطيهما الأم معاشها فضلا عن مبالغ أخرى، كل يوم صباحا لزوم الكيف وهما لا يعملان.

ابنتها فى الخامسة الابتدائية تعانى من مرض جلدى علاجه طويل ومكلف، لاحظت أن ابنتها لم تبتسم قط رغم محاولاتى لإسعادها وإدخال السرور عليها، مرضها الجلدى جزء منه بسبب الحزن والاكتئاب، وهو يترك بقعا داكنة تضر جمال البنت ويزيدها حزنا وخاصة أن بعضه باليد وجزءًا منه أسفل الذقن.

أصعب شىء فى الطب أن تجد فقيرا علاج مرضه مكلف، ويطول ولا تحصد له نتائج إيجابية إلا بعد فترة طويلة، فتجتمع عليه عدة بلاءات الفقر والمرض والحرمان من الدفء الأسرى.

آه من ابتلاءات الحياة، معها ثلاثة من الأولاد، كلما ارتفعت الأسعار هلكت هذه الأسر، قبل الغلاء كانت مطحونة، وبعده تكاد تتسول، حاولنا إسعادها قدر جهدنا، وبإمكانياتنا المتواضعة، المهم أن الأم غادرتنا بابتسامة عريضة ودعاء لأنها أدركت أننا بذلنا الوسع رغم أننا لسنا أغنياء وندخل فى الطبقة الوسطى بالكاد.

اللهم الطف بعبادك الفقراء، ولا تحرم أسرة من عائلها، أما زوجها فيحق عليه قول النبى صلى الله عليه وسلم «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول». هذا الحديث يعد مطرقة على رءوس هؤلاء الذين لا يشعرون بمسئوليتهم تجاه أبنائهم ويتركونهم وحدهم يصارعون أمواج الحياة المتلاطمة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved