بين الحربين.. تفكيك تناقضات التقدم الأوروبي

عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي

آخر تحديث: الجمعة 20 يناير 2023 - 8:40 م بتوقيت القاهرة

إذا كانت الفترة ما بين نهاية الحرب العالمية الأولى ١٩١٨ وبداية الحرب العالمية الثانية ١٩٣٩ قد اتسمت بتقلبات سياسية واقتصادية واجتماعية حادة فى أوروبا وبحروب حدودية (البلقان) وأهلية (إسبانيا) متتالية داخل القارة العجوز، فإنها شهدت أيضا تطورات علمية وابتكارات تكنولوجية كبرى جاء بعضها من ساحات المواجهة العسكرية طويلة المدى بين القوى الأوروبية فى الحرب الأولى ومن بحث المتحاربين عن تفوق بينى سنوات الدمار المتبادل والجيوش المحتجزة فى الخنادق وارتبط بعضها الآخر بجامعات ومعاهد البحث العلمى التى كانت تغير طرق ووسائل علاج الأمراض والأوبئة وتحدث أساليب الزراعة التقليدية وتفتح أبواب الصناعة والمواصلات لثورة تكنولوجية ثانية (بعد النجاحات التى ميزت القرن التاسع عشر).

• • •

أسفرت الحرب العالمية الأولى (١٩١٤ ــ ١٩١٨) عن بيئة أوروبية بالغة التناقض. فى عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، كانت أوروبا على موعد مع مرحلة تاريخية ومجتمعية بها، من جهة، صعود سياسى واجتماعى للتيارات اليمينية المتطرفة وللقوى الشيوعية العنيفة وأزمات فقر وبطالة مؤلمة ومشاهد إنسانية قاسية لجنود وضباط سقطوا ضحايا للاستخدام العسكرى للغازات الكيماوية السامة. فى عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، كانت أوروبا من جهة أخرى على موعد مع انتشار واسع لابتكارات صناعية حديثة إن فى مجال المواصلات والتواصل (إنتاج السيارات ومد شبكات القطارات وتطور السفن وبدء تطور شبكات الطيران المدنى وعولمة خطوط التلغراف والتليفون) أو فى مجال الصناعات الترفيهية والإعلامية (التوسع فى إنتاج أجهزة الراديو وأجهزة ودور العرض السينمائى والصحافة المطبوعة) أو فيما خص فهم الطبيعة والسيطرة عليها (الاكتشافات المبهرة التى أنجزها فيزيائيون وجيولوجيون عن قصة وتاريخ الكرة الأرضية وموقع البشر وحياتهم وحضارتهم على أرض عمرها مليارات السنوات) والاكتشافات الطبية المبهرة (من لقاحات عديدة إلى المضادات الحيوية ومسكنات الألم).

وقد كانت مشاهد الحياة اليومية فى المدن الأوروبية الكبرى كبرلين وباريس وفيينا وبودابست ولندن وموسكو تشى بتلك التناقضات التى لم تقتصر على القارة العجوز وحسب، بل امتدت وإن بحدة أقل إلى خارجها باتجاه القارتين الآسيوية والأفريقية اللتين سقطتا فى أجزاء واسعة ضحايا للاستعمار الأوروبى (خاصة فى أعقاب مؤتمر ومعاهدة برلين فى ١٨٧٨) وباتجاه العالم الجديد فى الأمريكيتين.

كانت يوميات المدن الأوروبية تشهد مسيرات لعصابات اليمين المتطرف واليسار الراديكالى (أصحاب القمصان الملونة) ومواجهات عنيفة بين عناصرها، واحتجاجات شعبية واسعة للفقراء والعاطلين عن العمل وطوابير طويلة تضمهم لتلقى المساعدات الإنسانية من هيئات خيرية أو التقدم للوظائف الحكومية والخاصة، وسيارات وحافلات تتزايد أعدادها فى الميادين والشوارع، وأصحاب أعمال يروجون (على واجهات البنايات وعلى أسقف الحافلات وجوانبها) لمنتجاتهم الجديدة من أجهزة الراديو وأجهزة التلفون المعدة للاستخدام المنزلى إلى أحدث صيحات الموضة والابتكارات الطبية للتخلص من الألم، ومسارح ودور عرض سينمائى وملاهٍ ليلية دفعت اليمين المتطرف إلى إدانة الانحلال الأخلاقى للمجتمعات الأوروبية ونظر إليها اليسار الراديكالى كأفيون جديد للمقهورين من الفقراء والعاطلين وضحايا الحروب. وفى قلب برلين وباريس وفيينا وغيرها، وليس على هوامشها، كانت يوميات الناس تصيغها أيضا مآسى الفقر والعوز والعنف الأهلى وانتشار إدمان مخدرات الموجة الجديدة كالهيروين والكوكايين والمخدرات المصنعة كيماويا والتى كانت الجيوش المتحاربة قد استخدمتها فى ساحات القتال للحد من آلام الجنود والضباط وانتقلت منها إلى حياة المدن وبحثت كعادتها عن ضحاياها بين الفقراء والمهمشين.

وتكررت يوميات مشابهة فى بعض المدن الآسيوية والأفريقية من شنجهاى إلى القاهرة وفى مدن العالم الجديد فى أمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية وأستراليا التى عانت أيضا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا من تداعيات الحرب العالمية الأولى التى أشعلها الأوروبيون وكانت لها أزماتها الخاصة بها.

• • •

كان سكان المستعمرات فى آسيا وأفريقيا، وبعد عقود من صدمة التفوق العسكرى والصناعى والتكنولوجى الأوروبى الذى ترجمته السلطات الاستعمارية إلى نهب وسلب للموارد الطبيعية لمصلحة أوروبا والزج بالشعوب المستعمرة إلى أتون حروب البيض (كجنود لا يكلفون الكثير) وممارسة العنف العنصرى والممنهج ضدهم إلى حد ارتكاب جرائم إبادة وقتل جماعى فى بعض المستعمرات (الألمان فى غرب وجنوب أفريقيا والفرنسيون فى الجزائر والبلجيكيون فى الكونغو والبريطانيون فى بعض المواجهات العسكرية فى شبه القارة الهندية والروس فى حروبهم فى آسيا الوسطى)، يستفيقون مجددا على طلب التحرر الوطنى والانعتاق من السيطرة الأوروبية ويبحثون عن أفكار سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة تدعم حقهم فى تقرير المصير وتعيد لحضاراتهم وثقافاتهم وتقاليدهم الاعتبار بعد عقود الصدمة ويواجهون بها الأوروبيون الذين روجوا طويلا وبأيديولوجيات عنصرية عديدة لتفوقهم. كانت شعوب المستعمرات فى آسيا وأفريقيا تبحث عن التعامل النقدى مع التقدم الأوروبى دون انسحاق أو عبودية للمستعمر وعن قراءة للقارة العجوز تميز بين إنجازاتها الكثيرة وإخفاقاتها الكثيرة والمدمرة أيضا. وقد شهد مؤتمر فرساى (١٩١٩) الذى عقد بين الأوروبيين المتحاربين وبمشاركة أمريكية ومشاركة وفود من شعوب المستعمرات، ترجمة مباشرة لبدايات انعتاق آسيا وأفريقيا من الانسحاق لأوروبا لم تقتصر قط على انتزاع حق تقرير المصير سياسيا بالاستقلال الوطنى، بل امتدت إلى آمال الانعتاق من مصائد الترويج للتفوق الحضارى الأوروبى.

أما فى العالم الجديد، فقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية وبعد انتهاء حربها الأهلية (١٨٦١ ــ ١٨٦٥) تطور سياسيا واقتصاديا واجتماعيا تجارب الأوروبيين دون حروبهم (إلى أن شاركت فى خواتيم الحرب العالمية الأولى) وتصعد كقوة كبرى ذات حضور عسكرى وتجارى وتكنولوجى وبعض الممارسات الاستعمارية وذات أزمات مشابهة لأزمات أوروبا إن فيما خص حضور اليمين المتطرف واليسار الراديكالى أو فيما ارتبط بالتناقضات الحادة بين الأغنياء والفقراء. خارج الولايات المتحدة، كانت يوميات حواضر كندا وأمريكا اللاتينية وأستراليا لا تختلف كثيرا عن يوميات المدن الأوروبية وإن بدرجات أقل من الصراعات المجتمعية والسياسية سمحت لأن تصبح مدن كمونتريال ومكسيكو سيتى وريو دى جانيرو وبيونيس آيريس ومونتفيديو وجهة هجرات جماعية قدمت بين الحربين العالميتين من أوروبا ومن العالم القديم فى آسيا وأفريقيا.

• • •

بينما أوروبا فى عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين على هذا الحال وبينما العالم خارجها يتفاعل معها ومع تناقضاتها الحادة قربا وبعدا وبحثا عن الانعتاق آسيويا وأفريقيا وعن الهيمنة البديلة أمريكيا شماليا وعن الهدوء والابتعاد عن الحروب والصراعات فى بقية الأماكن، تبلورت بين الحربين وفى سياقات فكرية وثقافية فى القارة العجوز وخارجها تيارات جديدة تحذر من انهيار حضارة أوروبا وتفند الجوانب المأساوية لتقدم الأوروبيين الذين تورطوا فى جرائم إبادة واستعمار وتسلح مثلما أنجزوا علميا وتكنولوجيا وإنسانيا وتبحث عن بدائل للعالم أكثر أمنا وعدلا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved