الرقابة حين (تقدمت)

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: السبت 20 فبراير 2010 - 9:31 ص بتوقيت القاهرة

 تحدثت صحفنا المستقلة التى صدرت يوم الخميس الماضى (18/2) عن استعدادات بعض أطراف الجماعة الوطنية المصرية لاستقبال الدكتور محمد البرادعى. وكان أهم ما أبرزته فى هذا الصدد خبر اعتقال اثنين من قيادات حركة شباب 6 أبريل أثناء قيامهما بتوزيع ملصقات فى حى العجوزة بالقاهرة دعت الجماهير إلى الخروج لاستقبال الرجل فى المطار، وتضمنت تأييد ترشيحه لرئاسة الجمهورية فى الانتخابات الرئاسية القادمة.

وفى حين أبرزت تلك الصحف الخبر على صفحاتها الأولى فإن جريدة الأهرام عالجته بطريقة مثيرة للانتباه، إذ نشرته فى ذيل صفحة الحوادث الداخلية (ص28)، وكان نص الخبر المنشور كما يلى: ألقت أجهزة الأمن بالجيزة القبض على شابين أثناء قيامهما بتعليق بعض اللافتات ولصق بعض الملصقات.. المناهضة للحكم، وعليها بعض العبارات التى تطلب تعديل الدستور، وإجراء توكيلات لإحدى المحاميات لترشيح عمرو موسى والدكتور محمد البرادعى والمستشار هشام البسطويسى، وقد حضر أيمن نور رئيس حزب الغد السابق، وحاول التدخل للإفراج عنهما مع مجموعة من أنصاره. وتجمعوا بأعداد كبيرة، وعطلوا حركة المرور، إلا أن أجهزة الأمن قامت بصرفهم وتمت إحالة المتهمين إلى النيابة.

يثير الانتباه فى صياغة الخبر أنها لم تشر إلى المناسبة ولا إلى هوية الشابين، واعتبرت ملصقاتهما مناهضة للحكم وداعية إلى تعديل الدستور، ومؤيدة لترشيح ثلاث شخصيات، متجنبه التنويه إلى أن المقصود هو الانتخابات الرئاسية. وفى حين نشرت صحيفة «المصرى اليوم» صورة لعدد من الناشطين فى حركة 6 أبريل الذين تجمعوا أمام مقر النيابة بعد القبض على زميلهم، فإن خبر «الأهرام» اكتفى بالإشارة إلى أنهم مجموعة من أنصار أيمن نور، وأنهم «عطلوا حركة المرور»!

هذه الصياغة المبتسرة والغامضة للحدث لم تختلف كثيرا عن الأسلوب الذى اتبعته الأهرام فى تغطية أول مناسبة تحدث فيها سعد باشا زغلول علانية عن أزمة مصر مع الاحتلال البريطانى، وهو الخطاب الذى كان بداية لتبعئة الرأى العام والتمهيد لثورة 1919، ذلك أن حمد باشا الباسل كان قد دعا عناصر النخبة المصرية فى ذلك الزمان للالتقاء فى منزله (يوم 13 يناير 1919) والاستماع إلى سعد زغلول بصفته رئيسا منتخبا للوفد المصرى الذى قاد المفاوضات مع سلطة الاحتلال البريطانى فى ذلك الحين، وفى خطابه ذاك دافع سعد زغلول عن حق مصر فى الاستقلال وحدد خمس خطوات تعتزم القوى الوطنية اتخاذها فى المستقبل صيانة لذلك الحق. واقترح فى ختام كلمته إرسال برقية إلى مؤتمر الصلح فى باريس تضمنت تحية للرئيس الأمريكى وودرو ويلسون الذى كان آنذاك من دعاة الديمقراطية والاستقلال.

هذا الاجتماع التاريخى المميز، نشرت عنه صحيفة الأهرام فى عدد 14 يناير 1919، الخبر التالى: «دعا بالأمس حمد باشا الباسل العضو فى الجمعية التشريعية جماعة كبيرة من أعيان العاصمة والأقاليم إلى تناول الشاى فى منزله بشارع الداخلية، فلبى دعوته نحو 150 ذاتا ووجيها وأديبا. وضرب فى حديقة داره الواسعة سرادقا جميلا نسقت فيه الكراسى والمقاعد والأحونة على أجمل طراز. ثم قدمت الحلوى وأطايب المآكل على الحاضرين مع الشاى والقهوة فقضوا جميعا من الساعة الرابعة إلى السادسة بأطيب الأحاديث ثم انصرفوا رويدا رويدا وجماعات جماعات وهم يتحدثون بفخامة هذا الاجتماع بفضل الداعى وكرمه، وكان سعادته وشقيقه وآله يقابلون المدعوين بما فطروا عليه من اللطف والكرم العربى يمتعون أسماعهم مع أصدقائهم وصحبهم بما يشنفها، تمنى الكل أو كثر مثل هذا الاجتماع الكبير».

فى ظل الرقابة التى فرضتها سلطة الاحتلال آنذاك لم يشر الخبر إلى وجود زعيم الأمة سعد زغلول، ولا إلى خطابه الذى أعلن فيه لأول مرة مطالب مصر وآمالها التى عقدتها على مؤتمر الصلح، واكتفت الأهرام بالإشارة إلى جمال السرادق الذى أقيم فيه حفل الشاى وإلى أطايب المآكل ولطف وكرم الراعين الذين أمتعوا أسماع ضيوفهم بما يشنفها!

المقارنة بين النصين تسلط الضوء على المدى الذى يلغى تطور فنون الرقابة وأساليبها، حتى أصبحت الرقابة الذاتية أكثر فعالية و«تقدما» من رقابة سلطة الاحتلال.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved