نحن والشبح جيران

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 20 فبراير 2016 - 10:35 م بتوقيت القاهرة

يقال إن سر البيوت المسكونة بالأشباح هو رغبة سكانها القدامى فى الثأر ممن نكلوا بهم أو سلبوهم الحياة، مهما طال الزمن. بعضهم تظل روحه عالقة بالمكان ليذكر دوما بما حدث له: جنود كثر قتلوا فى الميدان إبان هذه الحرب أو تلك، بحار وسيدة تلبس ثوبا أبيض غرقا على متن السفينة الأمريكية «كوين مارى»، زوجة الملك هنرى الثامن تظهر من وقت لآخر فى برج لندن الشهير الذى كان يوما سجنا كبيرا شهد عمليات إعدام جماعى، شبح البارونة هيلانة يصرخ فى قصر البارون إمبان بمصر الجديدة ليعيد مشهد شجار الأخير مع أخته التى ماتت فى العام 1929، عفاريت تباغت العاملين بقصر محمد على بشبرا بعد أن صار مهجورا... حكايات وروايات الماضى الذى يسكن الحاضر لا تنتهى وإن لم يخل بعضها من الأوهام. ولا أتصور ما سيكون عليه الحال بعد سنوات من الآن فى ظل الخراب والدمار والثورات وكل ما لحق بالمنطقة العربية، مخلفا وراءه جرائم قتل وتعذيب وبيوتا مهجورة وركاما وأطلالا، وكأننا سنشهد تزايدا لعدد الأشباح التى تعيش بيننا لردح من الزمن.

***

ستظل هذه الأشباح تطاردنا لفترة كى تختبر قدرتنا على التصالح مع الذات ومع الآخر، أحيانا تحضنا على الثأر، وأحيانا على النسيان أو الغفران. ولا يقتصر تعلق الأرواح على الأماكن، بل قد تسكن أشياء أو ممتلكات ثمينة كالمجوهرات، وتظل حبيسة كأنها داخل قمقم، حتى يقتنيها أحدهم وتجره إلى دوامة من الأسرار أو سوء الطالع. لذا لا ينصح البعض بشراء خاتم قديم مثلا، مجهول المصدر، لمناسبة سارة، فماضى المجوهرات يبقى أحيانا ملازما لها مدى الحياة، لا تدرى ما قد يأتيك من ورائها.
وماضى الأشخاص أيضا يبقى ملازما لهم مدى الحياة.. الخوف الحقيقى هو عندما تسكن أشباح الماضى الأشخاص، تفعل بهم ما تفعل بالبيوت والخواتم فتجعلهم محكومين بالذكريات، أسرى لما حدث، خشية أن يتكرر. وبالتالى يعيش البنى آدم دوما بصحبة شبح، يظهر له لينغص عليه حياته أو ليدفعه نحو خيارات ومشاعر مغلوطة لا ترضيه. يظل يعاشر العفاريت، فلا يستمتع بالحاضر، ويصبح من «أصحاب النفوس المسكونة» أو من يعانون حالة «إمساك وجدانى»: لا يهضمون الذكريات الأليمة ولا يتعايشون معها، فيأخذون ما ينفعهم من تجاربها ويلقون بالمؤذى منها إلى سلة النسيان. يصيبهم شبح الماضى بالشلل، لا حركة ولا تطور ولا رغبة فى مشروعات جديدة.. مكانك سر.

***

لا أتحدث هنا عن زبائن سوق النوستالجيا الرائج حاليا الذين يقيمون فى الحنين إلى زمن فات، ظنا دوما أن الماضى كان أفضل، فهناك فرق بين حالة النوستالجيا والشجن وبين أن يختار أحدهم أن يعيش فى بيت الرعب إلى الأبد، مستحضرا من حين إلى حين كل ما آلمه فى السابق، فتكون نوبات الأسى والغضب والحسرة والشعور بالذنب وجلد الذات وما شابههم، تلك التى تدفن «الحاضر بالحيا». لا يريد أن يفهم أن الماضى حدث بالفعل، خسر خلاله ما خسر، وأن عليه تقبل الأمر الواقع، دون اجترار التفاصيل المؤلمة، لأنه يخاف الخوف والفشل مجددا. تنتهز الأشباح هذا الخوف لكى تتمكن أكثر فأكثر، كما يفعلون داخل البيوت عندما يتعمدون إرعاب سكانها والعبث بهم، فكلما زاد خوف البشر زادت قوة الشبح ورغبته فى أن يترك أثرا لا يداويه شىء. لا يتمكن البعض من الوقوف فى منطقة وسط بين اجترار آلام الماضى وعذاباته وبين إنكارها جميعا والتظاهر بأن لم تكن، لا يتمكنون من تذكرها والتصالح معها، دون معاندة، لا يتمكنون من أن يدعوها تمر أمامهم بعد الاعتراف بها ومواجهتها وتقبلها، دون أن يسترجعوها مرارا وتكرار كشريط سينما لا يتوقف أبدا ودون أن يحاولوا التخلص من ألبوم الذكريات القديم.

ينطبق هذا على الأفراد وعلى الشعوب، فليس هناك ما هو أصعب من جروح التاريخ القديمة غير الملتئمة، وليس هناك أسوأ من شعب يعيش فى الماضى ويرفض ويقاوم التغيير ويفضل أن يظل الوضع على ما هو عليه خوفا من الجديد رغم تدنيه. يخاف من العفريت فيظهر له ويتجلى أمام عينيه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved